حفل القرن العشرون بالكثير من الزعامات التي تمتعت بالتقديس من قبل الرفاق والأنصار وجماهير الشعوب المغلوبة على أمرها·· وكان هؤلاء الزعماء يأتون للحكم بدعوى تخليص البلاد والعباد من نير الاستعمار والعبودية أو تحرير الشعب من الأنظمة الفاسدة أو الظالمة أو من تحكم كبار القوم وانتفاعهم بثروات الشعوب·· وقد تنوعت تلك القيادات من حيث خلفيتها العائلية وبيئتها الاجتماعية أو منطلقاتها الفكرية وقيمها السياسية، وكان من بين هؤلاء هتلر في ألمانيا أو ستالين في روسيا والاتحاد السوفياتي السابق أو كم في كوريا الشمالية أو ماو في الصين، ناهيك عن الزعماء الذين مروا على البلدان العربية والإسلامية مثل صدام حسين في العراق·· كل هؤلاء القادة تغنت أنظمة الدعاية والإعلام بهم وخدعت الشعوب بإنجازاتهم ومكنتهم من السيطرة لزمن طويل على عقول الجماهير بدعوى أنهم يمثلون إرادة الشعب ويهتمون بمصالحه ويهدفون لخيره ويعملون من أجل إنجاز مشروع نهضوي كبير·· كما أن هؤلاء القادة إذا قرروا الحرب أو كبت الحريات وفرض الرقابة على الثقافة وحرية الرأي، أو حتى لو قرروا تصفية الخصوم السياسيين دون أي مبررات فإن تلك الأمور لابد أن تكون صحيحة ما دام القائد المحبوب قد أقرها ومن ثم لا بد من احترام إرادة القائد·
وقد تفنن كتاب في بلدان عديدة، وخصوصا بلدان أمريكا اللاتينية، في الكتابة عن هؤلاء القادة من خلال روايات رائعة مثل الكاتب الأرجنتيني بورخيس الذي سطر ذلك في روايته الرائعة "السيد الرئىس"، أو ماركيز، الكاتب الكولومبي، في العديد من رواياته الممتعة·· ولا شك أن عددا من الكتاب في روسيا قد كتبوا عن ظاهرة ستالين ووثقوا في رواياتهم الأوضاع المزرية التي مرت بها روسيا وغيرها من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق والطغيان الذي ساد في عهده والمجازر التي ارتكبت بأوامره·· وقد صدر أخيرا كتاب عن حياة ماوتسي تونغ تحت عنوان "ماو:القصة غير المعلومة" للكاتبة الصينية جنغ شانغ "Jung Chang"، ويأتي هذا الكتاب ليروي عن الحياة في الصين في ظل حكم ماوتسي تونغ وكيف عانت البلاد من الطغيان وكيف خسرت الملايين من البشر بالتصفيات والمجاعة في الوقت الذي تمتع فيه الزعيم المحبوب بكل نعم الحياة بشكل مذهل·· وتذكر الكاتبة بأن 38 مليونا من الصينيين قد قضوا نحبهم خلال فترة السنوات الأربع التي اعتمد خلالها برنامج "القفزة العظمى الى الأمام" أو "The Great Leap Forward"·
إن مما لا شك فيه أن الكثير من البشر، خصوصا في منطقتنا العربية، مازال يقدس القيادات الفردية، كما أن عددا من هؤلاء لا يزال يرى في القيادات التي أشرت إليها بأنها مقدسة ومنزهة عن الخطأ، ولن يقبل العديد من هؤلاء أي نقد لتلك الشخصيات التي تعتبر أسطورية، حسب معتقداتهم، لكن الحقائق والوقائع تثبت خطأ تلك المعتقدات والأفكار·· تظل المعضلة الرئىسية في هذه الوضعية كون هؤلاء القادة يحكمون بلدانهم بالتوجيه والاستبداد، كما أنهم يحكمون لزمن طويل، مما يجعل الأمور تبدو اعتيادية للكثير من الناس ويدفعهم لتصديق جل المقولات التي تطرح من أجهزة الأنظمة المستبدة، بالرغم من الفقر والهوان اللذين يعاني منهما البشر·· ولقد ساعد احتكار التعليم والإعلام خلال سنوات القرن العشرين، خصوصا قبل تطور التكنولوجيا في أنظمة الاتصالات الى تسيُّد الفكر الواحد واعتماد عمليات غسيل الأدمغة ومحاربة أصحاب الرأي من المثقفين والمعارضين السياسيين، أدت كل تلك الحقائق الى هيمنة كاملة على الناس ودفعهم الى القبول بما هو قائم وتحول البشر الى عناصر مستكينة "Docile"·
كل ما سبق ذكره يؤكد كم الأوهام التي انتشرت في عالمنا العربي والإسلامي والنامي، من الصين شرقا الى أقصى شواطىء أمريكا اللاتينية غربا ومن روسيا شمالا وحتى أقصى الجنوب في القارة الأفريقية·· لقد مر قرن كامل من الخداع على هذه الشعوب التي فقدت الملايين من البشر وحرمت من نعم الحياة في ظل أولئك القادة المخلدين·· وكم من الأموال قد أنفقت لتوفير السعادة والحياة الرغدة لأولئك الزعماء في الوقت الذي عانى فيه الكثير من البشر من الضنك والحياة التعيسة والحرمان·· لكن هل نحن في القرن الحادي والعشرين سنستفيد من تلك التجارب المريرة التي مررنا بها ومر بها أفراد الأجيال التي سبقتنا لنؤكد الرفض لكل حكم مستبد مبني على عبادة الفرد أو الحزب أو الجماعة، ونؤسس لأنظمة حكم ديمقراطية مثل ما تتمتع به شعوب أوروبا وأمريكا الشمالية منذ أواسط القرن التاسع عشر؟! هذا هو التحدي الذي يواجه هذه الشعوب وخصوصا نخبها المثقفة التي عليها التحرر من الانتهازية والتملق·· ولابد أن تحيي كل أصحاب الضمير الذين سطروا أحداث بلدانهم في ظل الطغاة ليؤكدوا فداحة الخداع الذي انطلى على شعوب كثيرة·
باحث اقتصادي كويتي
tameemi@taleea.com
|