أثار تقرير القاضي الألماني ميليس المتعلق باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري مسائل أساسية بشأن الواقع السياسي العربي·· تبين من هذا التقرير المدى الذي يمكن أن تذهب فيه العداوات السياسية والتي تؤدي الى التآمر والتخطيط للاغتيال وإشغال القوى الأمنية في بلدين عربيين، سورية ولبنان، من أجل التخلص من شخصية سياسية مهمة·· وقد يخطر على بال البعض بأن مثل هذا التآمر وهذا التخطيط المحكم لو وجه على مدى السنوات والعقود الماضية من أجل تحرير فلسطين أو استعادة الأراضي العربية المحتلة بعد هزيمة وكارثة حرب يونيو 1967 لربما استعدنا الجولان والضفة الغربية وأي أراض عربية محتلة أخرى·· كيف يتوافر الوقت والعزيمة للتخطيط لمثل هذه العمليات التي تدخل في نطاق الخلافات العربية دون أن يكون هناك أي جهد يبذل من أجل التفكير في التنمية الاقتصادية أو تطوير الحياة السياسية أو تحسين ظروف المعيشة في أي من بلداننا العربية؟
ربما لا يجد أي مسؤول عربي ذي صلة بهذه القضايا أي جدوى أو مشروعية لمثل هذه التساؤلات، ويرى بأن المحافظة على الأنظمة القائمة أو الواقع السياسي القائم أكثر أهمية من التنمية وتحقيق السلام أو حتى استعادة الأراضي المحتلة بوسيلة أو بأخرى· لكن ألم يحن الوقت للانتباه لتدهور الحياة في بلداننا وتراجع التنمية وتدني مستويات المعيشة وارتفاع حدة التطرف بين الشباب نتيجة للشحن الأيديولوجي وتفشي الفكر الرجعي المعاكس لتيار الحضارة الإنسانية؟ ربما تفسر الأحداث الجارية عمق الأزمة الحضارية التي تعيشها المجتمعات العربية والتي أضحت في مستويات اقتصادية واجتماعية لا تحسدها عليها شعوب العالم الثالث الفقيرة·
إن هذا الواقع المرير والذي يؤكد هدر الإمكانات الاقتصادية وانحراف الجهود السياسية لا يوحي بإمكانات للتطور دون استنهاض روح العصر لدى شعوبنا العربية·· كيف يمكن أن يتحقق ذلك دون بث الوعي الثقافي وتعزيز ملكات التفكير العقلاني في أوساط القوى الأساسية والتي يمكن أن تؤثر في أوسع القطاعات الشعبية؟ يجب أن نستهدف العناصر المثقفة ونحاول أن نحررها من الاستقطابات العقيمة التي ظلت، وما زالت، تهيمن على عقولها وتجعلها قابلة لتلقي طروحات فكرية لا تمت للحقيقة بصلة وتحاول أن تصرف الأنظار عن الواقع العربي ومشكلاته بإلقاء اللوم على الآخرين، مثل الغرب والاستعمار أو الإمبريالية الى آخر تلك الطروحات التي لم تعد مقنعة لأي عاقل·· وإذا شخصنا معضلات مجتمعاتنا بشكل واع وناضج فإننا سوف نتلمس طوق النجاة ونتلمس طريق التنمية والتطور·
ولا شك أن الوعي الثقافي القاصر في مجتمعاتنا هو الذي يمنح الأنظمة المستبدة القدرة على تمرير أعمالها دون محاسبة، أو على الأقل إجراء محاورة حول جدوى تلك الأعمال·· كما أن قصور الوعي يفقد العلاقات بين الأنظمة والشعوب الشفافية اللازمة التي تكشف العيوب والانتهاكات وأساليب الاستبداد والقمع··· وإذا كان الوعي الثقافي الملتبس من أسباب التدهور فكيف يمكن أن ننتشل هذا الواقع ونحن نعاني من منظمات عربية يسيطر عليها مثقفون يتميزون بدعمهم لكل استبداد ومستبد مثل المؤتمر القومي العربي، أو اتحاد الأدباء العرب أو غيرها من منظمات مهنية سخرت للترويج للفكر المتزمت، سواء كان ذلك قوميا أو دينيا؟ هل يمكن أن يبرز خلال السنوات المقبلة أدباء ومثقفون ونشطاء سياسيون يطرحون الأمور دون خوف أو وجل ويعتمدون العقلانية؟
إن المعضلات التي تراكمت على مدى سنوات وعقود طويلة لا يمكن تجاوزها بيسر أو خلال زمن قصير لكن لا يجوز الركون الى أن الزمن كفيل بحل المشكلات·· هناك ضرورة للنهوض إذا أردنا أن نواكب العالم في التطور والتحضر وتحسين ظروف الحياة في بلداننا·· إن مسؤولية الأجيال المخضرمة أساسية من أجل توفير مستقبل معقول للأجيال الجديدة، أو الشابة، والتي لا بد أنها تواجه تركة ثقيلة من المشاكل والقضايا التي أورثناها لها دون شعور بالمسؤولية·· وعلى هؤلاء المثقفين الأشاوس أن يفكروا بجدية بشأن مفاهيمهم للحياة ومدى ملاءمتها لتطور المجتمعات العربية، وعليهم النظر الى تجارب الآخرين والتعلم منها!
tameemi@taleea.com |