ماذا يعني الانسحاب من غزة في هذه المرحلة التاريخية؟ وما هي التبعات المتوقعة على الصراع في منطقة الشرق الأوسط؟ لقد أكدت عمليات إخلاء الإسرائيليين الذين استوطنوا في بعض المستعمرات في قطاع غزة ورفضوا الانصياع للأوامر والتعليمات بالانسحاب أن حكومة شارون قد اتخذت قرارا حاسما لا رجعة فيه بشأن تنفيذ ذلك الانسحاب في إطار إدارتها للصراع مع الفلسطينيين في عملية التفاوض·· ومما لا شك فيه أن ما سيحدث بعد هذا الانسحاب سيؤكد مدى جدية الطرفين لإيجاد قاعدة مكينة وصالحة لقيام دولة فلسطينية مستقلة وقادرة على الوفاء بمستلزمات الشعب الفلسطيني وتحقيق آماله في الحرية والديمقراطية والعدالة والعيش الكريم·· لقد عانى الفلسطينيون، وما زالوا يعانون، من تبعات الاحتلال وأعمال الانتفاضة الثانية والعنف الإسرائيلي الشديد مما عطل حياتهم وزاد من آلامهم ورفع أعداد العاطلين بينهم·· وكانت غزة من المناطق الأكثر تضررا من الاحتلال وتبعاته حيث تحطمت البنية التحتية وارتفعت معدلات الفقر في ظل واقع سكاني كثيف قياسا بمساحة الأرض ومحدودية الموارد الاقتصادية·· ولا شك أن الإسرائيليين الذين قرروا الانسحاب من هناك لم يرتاحوا يوما واحدا في ذلك القطاع بالرغم من تعنت المتشددين من بينهم الذين يرفضون الانسحاب من أي أرض يحتلونها·

لقد أكدت تجارب الحروب والاحتلالات في خضم هذا الصراع المرير والذي بدأ بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948 أن فرصا مهمة قد فاتت على العرب والإسرائيليين كان يمكن لهم من خلالها أن يحققوا السلام والتسوية المواتية لكل الأطراف ويتفرغوا لعملية البناء والتنمية الاقتصادية والسياسية·· وإذا أراد باحث جاد أن يراجع التاريخ ويناقش بطرق علمية للمبررات التي أججت هذا الصراع لوجد كم من الهدر للإمكانات قد حدث على حساب مصالح شعوب المنطقة·· لقد فات على العرب أن يستفيدوا من قرارات الأمم المتحدة بعد قيام إسرائيل في عام 1948 ويواجهوا هذا الكيان المزروع بينهم من خلال المواجهة الحضارية المتمثلة بالبناء الديمقراطي وإنجاز عمليات التنمية الاقتصادية والاستفادة من التطور التقني والتعليمي، لكنهم أبوا ألا أن يواجهوا الأمر إلا بتبني الصراع دون أن يحققوا إنجازا يذكر كما أن الإسرائيليين الذين تفوقوا عسكريا وهزموا العرب في كل المعارك التي واجهوهم فيها لم يستفيدوا من إمكانات السلام التي كانوا يملكونها·

لقد كان يمكن للإسرائيليين بعد هزيمة العرب في حرب حزيران (يونيو) 1967 أن ينسحبوا من الأراضي العربية التي احتلوها ويوقعوا سلاما شاملا مع كل البلدان العربية والتي كانت في أوضاع لا بد أن تدفعها للقبول بالسلام·· بيد أن التعنت الذي أبداه أولئك الإسرائيليون لم يدفعهم الى التعرف على الحقائق التاريخية التي تؤكد بأن الاحتلال لن يفيد ولا بد من إقرار حقوق الشعوب دون تردد·· بل أنهم استمروا واندفعوا لتشجيع المتطرفين منهم الذين أقاموا مستعمرات استيطان في الضفة الغربية وغزة والجولان وسيناء·· ولا شك أن الحرب التي قادها الرئيس الراحل أنور السادات في أكتوبر "تشرين الأول" عام 1973 دفعت أطراف في المجتمع السياسي الإسرائيلي لتقبل فكرة الانسحاب والذي يمكن من تحقيق السلام·· كما أن مخاطرة السادات في الاندفاع في طريق السلام في عام 1977 وزيارته لإسرائيل قد مهدت لتحقيق سلام بين مصر وإسرائيل وأدت الى اتفاقات كامب ديفيد، ولكن عدم التجاوب من الأطراف العربية الأخرى ومن الإسرائيليين، بشكل كاف، لم تؤد الى تحقيق السلام المنشود·

إن ما يجري الآن من تطورات على الأرض الفلسطينية لا بد أن يخلق وعيا بأهمية الاندفاع في طريق المفاوضات حتى يتحقق الانسحاب الشامل من الضفة الغربية وإقامة الدولة الفلسطينية·· ويجب على الفصائل الفلسطينية أن تساعد السلطة الفلسطينية في عملية المفاوضات ولا تفسح مجالا للمتطرفين من الجانب الإسرائيلي لتعطيل التسوية التاريخية·· ولذلك فإن الانتخابات التشريعية الفلسطينية المقرر لها في شهر يناير "كانون الثاني" من عام 2006 يؤمل أن تسعف هذه السلطة في توفير الشرعية اللازمة لإنجاز المفاوضات·· كذلك يجب أن تفعّل السلطة من إدارتها للقطاع وتوفير الأمن والاستقرار وجلب الأموال لإنعاش الحياة الاقتصادية وتحسين ظروف المعيشة للمواطنين هناك·· وكما هو معلوم أن ردود الفعل على الانسحاب من غزة من قبل تيار المتطرفين في إسرائيل لن يتوقف وربما تدفع الصراعات هناك الى إجراء انتخابات مبكرة، ولا شك أن دور الفلسطينيين في تلك الانتخابات سيكون واضحا من خلال الممارسة على الأرض·· وإذا كان هناك من عقلانية في إدارة الصراع فإن معسكر السلام سوف ينتصر!

باحث اقتصادي كويتي

tameemi@taleea.com