هل يمكن أن نزعم بأن البنيان السياسي العربي سيتمكن من ترميم ذاته وينتقل بالوضع العربي الى مرحلة تؤهله لدخول العصر الجديد دون معضلات كبيرة؟ هذا السؤال المركزي لا بد أن يثقل على كل المهتمين بالتحول نحو الديمقراطية من خلال آليات آمنة لا تؤدي الى اضطراب وقلاقل وفوضى اجتماعية·· لكن الشواهد لا تدل على إمكانات واعدة حتى الآن إذا أخذنا بنظر الاعتبار عدداً من النماذج العربية·· من أهم هذه النماذج النموذج الجزائري الذي بدأ بمسلسل التحول من الحكم العسكري الشمولي الذي انتهى بعهد الشاذلي بن جديد في نهاية الثمانينات من القرن العشرين، حيث أثقل على النظام والمجتمع بأوضاع فاسدة ومديونيات حكومية تجاه الخارج زادت على الـ 28 بليون دولار أمريكي وتعطل أعمال التنمية واتساع نطاق البطالة بين المتعلمين وخريجي الجامعات·· وقد أراد الشاذلي بن جديد أن ينهي عهده من خلال تحول سلمي نحو الديمقراطية وإطلاق حرية الأحزاب وإنجاز انتخابات نيابية معتمدة على التعددية الحزبية·
لكن ما حدث كان متناقضا مع تلك الطموحات المتواضعة حيث برزت القوى الإسلامية المتشددة بقيادة جبهة الإنقاذ الإسلامية بزعامة عباسي مدني وعلي بن الحاج كأقوى التنظيمات على الساحة· لم تكن تلك القوى على استعداد لقبول التعددية المؤسسة على قيم سياسية علمانية، واتجهت بقوة دعمها في الشارع السياسي نحو الشمولية ورفض الآخر وتعهدت بأن الانتخابات التي أجريت في أواخر عام 1991 والتي تأكدت بأنها ستوصلها إلى السلطة دون منازع ستكون آخر الانتخابات في الجزائر· هذا التحدي دفع الجيش الجزائري وقياداته الأوتوقراطية إلى وضع حد للانتخابات وإلغاء نتائج الجولة الأولى وإعلان الأحكام العرفية·· بيد أن النتيجة لم تؤد الى سلام سياسي أو اجتماعي واستمر مسلسل العنف بشكل مثير وبشع وفقدت الجزائر أكثر من مئة ألف مواطن في خضم الصراع الدموي ومن بينهم محمد بو ضياف الذي عين رئيسا للجزائر بعد الشاذلي بن جديد عام 1992، وكثير من الكتاب والمثقفين والصحافيين والفنانين وغيرهم·
هناك، أيضا، النموذج المصري الذي بدأ في عام 1976 في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات بتجربة المنابر التي تحولت الى أحزاب·· ولقد كان الهدف من تلك التجربة إرساء قواعد للتعددية المتسأنسة والتي يمكن أن تمثل معارضة متحكماً بها، لكن هذه التجربة غيبت الأوضاع الحقيقية للقوى السياسية المتحكمة في الشارع السياسي، وبرز من بينها الإسلاميون بمختلف تياراتهم مثل الإخوان المسلمون والجهاد الإسلامي والجماعة الإسلامية·· وقد استغل هؤلاء الإسلاميون النزعات المعادية للسلام مع إسرائيل والتوجهات نحو الاقتصاد الحر والصلات الطيبة مع الغرب، والولايات المتحدة تحديدا، استغلوا كل هذه الأمور لتأليب الشارع ضد نظام الرئيس السادات وقاموا بتنفيذ اغتياله في 6 أكتوبر من عام 1981··· لم يتوقف الأمر عند الاغتيال بل استمر مسلسل العنف في عهد الرئيس حسني مبارك ولم يوضع حد لذلك العنف حتى أواخر التسعينات من القرن الماضي، لكن بعد تخريب متعمد لقطاع السياحة الذي تمثل في الاعتداء على أفواج السياح، وكذلك بعد عمليات استهداف للقيادات السياسية والأمنية·
هل ما يجري الآن في لبنان في محاولة استعادة النظام الديمقراطي هناك لمصداقيته مشابها لما حدث في الجزائر ومصر في السنوات والعقود الماضية؟ يحدث الآن في لبنان وبعد اضطرار سورية لسحب قواتها العسكرية من هناك استهداف لشخصيات سياسية، آخرها كان الأستاذ جورج حاوي، هل يعني ذلك أن هناك محاولة لتعطيل عملية الوئام السياسي الوطني وإضعاف الثقة بالأوضاع اللبنانية لتعطيل تدفق الاستثمارات وعمليات الانتعاش الاقتصادي؟ لا بد أن تكون أهداف المخططين متوافقة مع هذا التحليل، لكن يبدو أن اللبنانيين قد عقدوا العزم على الانطلاق بقوة نحو إنجاز الإصلاح السياسي والاقتصادي والتمتع باستقلالهم·· وإذا تمكن اللبنانيون من وضع حد لمسلسل الاغتيالات وأعمال التخريب فإنهم بذلك يؤكدون شكيمة وعزما يستفيد منها كل العرب الديمقراطيين·
tameemi@taleea.com |