عندما ينشر هذا المقال تكون عملية الاستفتاء على الدستور العراقي قد انتهت، وربما تكون النتيجة قد تحددت·· ومما لا شك فيه أن الاستفتاء على الدستور العراقي يمثل تطورا مهما في التاريخ السياسي للعراق والذي تعطلت فيه الحياة الدستورية منذ انقلاب عام 1958، حيث هيمن العسكر ثم الدكتاتورية البعثية، ثم الصدامية، على مجريات الحياة هناك إلى أن جاء الأمريكيون وحلفاؤهم لتخليص العراق من ذلك الاستبداد المقيت في مارس من عام 2003·· هذا التطور والذي سبقه إجراء انتخابات الجمعية الوطنية التأسيسية والتي أنيط بها صياغة الدستور لا بد أن يشكل تعزيزا لنقل العراق الى أوضاع دستورية ديمقراطية·· ولقد انتعشت الحياة السياسية هناك بعد التدخل الأجنبي وظهر على السطح العديد من الأحزاب والمنظمات وازدادت أعداد الصحف والمجلات وأعيدت الحياة للمسرح والسينما والثقافة بشكل عام·· من الصحيح القول إنه في خضم هذه التطورات برزت مظاهر سلبية في الواقع السياسي والاجتماعي في العراق حيث تعزز دور الأحزاب والمنظمات الدينية في مختلف مدن وقرى العراق وهي تنتمي للطائفتين السنية والشيعية، كما ظهرت مليشيات حزبية طائفية مسلحة تحاول أن تطبق أجندتها دون رقيب وأخضعت المواطنين لعذابات جديدة ومحاولات لتأطيرهم حسب قيم ومعتقدات رجعية بعيدة عن مفاهيم الدين السمحاء·· وبطبيعة الحال ظهرت ظاهرة الإرهاب التي حصدت أرواح المواطنين من مختلف الفئات والطوائف والطبقات دون تمييز وعطلت المنشآت الاقتصادية ومرتكزات البنية التحتية·
بالرغم من كل هذه المظاهر المحزنة والمؤسفة إلا أن المسيرة تبدو قائمة ومتجهة نحو تطورات إيجابية في الحياة السياسية·· وقد يعتقد الكثير من المراقبين العرب والأجانب بأن الأوضاع في العراق تعاني من الفوضى وعدم قدرة الأمريكيين وحلفائهم، البريطانيين أساسا، على حماية العراقيين من العنف ووضع حد له والسير حسب سيناريو التحول نحو الديمقراطية وإنعاش الحياة الاقتصادية·· لكن هذه التطورات المقلقة، وهي تستحق الاهتمام، يبدو أنها لن توقف العناصر الإيجابية في عملية التغيير، وقد أثبت العراقيون قدرتهم على التعامل مع الظروف الصعبة ومقاومة محاولات تفجير الصراعات والاندفاع في الحروب الأهلية أو الطائفية·· بل أكثر من ذلك أبدت أطراف عراقية أساسية أنها تملك قدرة على تفهم الأوضاع وأهمية معالجتها بأساليب مرنة وتقدم التنازلات الضرورية من أجل التوصل الى تفاهمات تؤدي الى تلاحم وطني·· وقدم عدد من هؤلاء السياسيين الحكماء تضحيات مهمة وقتل واغتيل الكثير منهم وهم ما زالوا يتعرضون لمخاطر جسيمة·· وبتقديري أن وجود هذه النوعية من القيادات السياسية يعزز الثقة بقدرة العراقيين على تجاوز المخاطر التي أفرزتها عملية التغيير بعد كبت واستبداد طويلين في الحياة المجتمعية هناك·
وإذا ما أقر الدستور واعتمد فإن المرحلة المقبلة تتطلب برامج جديدة من القوى الحية في المجتمع العراقي، كما أنها تتطلب تأطيرات وتنظيمات مختلفة·· هناك عددد من القوى السياسية المؤمنة بالديمقراطية والبعيدة عن التأثيرات الطائفية والفئوية، وهذه القوى يجب أن تعمل على تبني برنامج للتغيير الديمقراطي والاجتماعي على أسس حضارية وتقدمية تهدف الى تعزيز التوجهات العصرية في الحياة السياسية·· ولذلك فإن الانتخابات المزمع عقدها في شهر ديسمبر المقبل القادم تستدعي تلاحم كل القوى ذات النهج الديمقراطي التقدمي وتتبنى رسالة سياسية واضحة لكل العراقيين تركز على أهمية بناء مجتمع جديد وإنجاز نهضة اقتصادية مبنية على الإنتاج والكفاءة ودور مهم للقطاع الخاص·· كما أن هذه القوى يجب أن تتبنى قضايا المرأة وتحريرها من تبعات التخلف والاستبداد الذكوري في مختلف أنحاء العراق وتعزيز دورها في الحياة السياسية والاجتماعية وتمكين المرأة من لعب دور حيوي في العملية الاقتصادية·· كذلك، وفي شأن المرأة أيضا، لابد من تأكيد الحقوق المكتسبة التي نالتها في السنوات الخمسين الماضية، خصوصا في قوانين الأحوال الشخصية والمدنية·
لن تكون عملية التطور الديمقراطية في بلد مثل العراق يسيرة ولكنها أكيدة، بمعنى أنه مهما تعثرت العملية وتباطأت فإنها لابد أن توفق في نهاية المطاف·· هناك تكاليف بشرية ومادية وهناك فرص ضائعة بسبب العنف والإرهاب والاستبداد الاجتماعي والديني إلا أن العديد من بلدان العالم عانت من هذه العوامل في مراحل التغيير والتحول·· ولا شك أن ظروف العراق أصعب من الكثير من البلدان التي مرت بالتجارب المريرة للتغيير نظرا للطغيان الذي ساد خلال سنوات حكم البعث والذي توج خلال السنوات العشرين الماضية باستبداد حكم صدام حسين وزمرته·· وقد تؤكد كتب التاريخ بأن هذا الاستبداد قد أثر على الوعي في المجتمع العراقي وأدى الى التخلف وعودة المواطنين لقيم الطائفة والقبيلة والجماعة والإثنية والاحتماء بها بدلا من الاستقواء بعناصر الوعي الوطني والروحي العصرية· مهما يكن من أمر فإن تدفق العراقيين على مراكز الاقتراع واندفاع من أجل تأكيد مواقفهم، مهما كانت هذه المواقف، يمثلان عناصر الوعي الجديدة التي يمكن أن تتحول في القادم من الأيام الى قوة دفع وزخم من أجل التحول الديمقراطي المنشود وبناء الدولة العصرية·
tameemi@taleea.com |