| بدأ الفرنسيون بالافتخار بأن معدلات النمو الطبيعي للسكان لديهم أصبحت مرتفعة بعد أن كان هناك تخوف من تراجع أعداد السكان خلال السنوات المقبلة، وتشير الإحصاءات الى أن معدل المواليد للمرأة الفرنسية ارتفع الى 1.9 طفل في الوقت الذي لا يزيد هذا المعدل في البلدان الأوروبية عن 1.2 طفل للمرأة في سن الإنجاب، ولا شك أن مسألة تراجع أعداد السكان في البلدان الأوروبية يمثل هاجسا سياسيا واقتصاديا لحكومات هذه البلدان حيث تنخفض أعداد الشباب وتعجز الجيوش والمؤسسات العسكرية عن توفير المجندين، وفي ذات الوقت ترتفع أعداد كبار السن وتتزايد التزامات التقاعد وتوفير العلاج لمن بلغوا من العمر عتيا حيث تزداد الحاجة للعناية الصحية وتوفير مستلزمات خدمة الذين بلغوا خريف العمر، في الوقت ذاته، ونظرا لانخفاض أعداد الشباب تنخفض مخصصات الرعاية الاجتماعية والتقاعد، والتي تستخدم للإنفاق على كبار السن، ولا بد أن البلدان الأوروبية تعاني من هذه المشكلة نظرا لسخاء أنظمتها الاجتماعية والتي تعتمد على فلسفة الرعاية·
وفي الولايات المتحدة الأمريكية هناك ظاهرة في هذا المنعطف التاريخي حيث إن جيل من يطلق عليهم بـ Baby Boomers قد بلغ الكثير منهم، إن لم تكن غالبيتهم، سن التقاعد، وتكمن المشكلة في أن أعداد هؤلاء كبيرة وهم من ولدوا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية حيث تزايدت أعداد الولادات في المجتمع الأمريكي بعد عودة الجنود من الحرب، وكما هو معلوم أن متوسط عدد الأبناء في العائلة الأمريكية خلال سنوات الأربعينات والخمسينات كان يتراوح بين خمسة الى سبعة، لكن لا يقابل هؤلاء في الوقت الراهن أعداد كافية من العاملين لتحمل أعبائهم التقاعدية وتقديم الرعاية لهم في الوقت الذي تعاني فيه أنظمة التقاعد من مشكلات مالية مهمة، وتشتكي الأنظمة الصحية من عدم توافر الأموال اللازمة لمواجهة احتياجات المسنين منهم والذين تتزايد أعدادهم بفعل تحسن معدلات الحياة في البلدان الصناعية المتقدمة·
ولا شك أن هذه المعطيات الديمغرافية قد دفعت حكومات البلدان الصناعية لتشجيع الهجرة من البلدان الأقل نموا، والتي يسعى شبابها إلى البحث عن مصادر رزق مضمونة وفرص عمل معقولة·· لذلك شجع الأوروبيون على مدى نصف القرن الماضي الكثير من عرب أفريقيا الشمالية وغيرهم من أفريقيين من دول جنوب الصحراء للتوطن في بلدان كثيرة مثل فرنسا وبلجيكا وهولندا، كما أقام الأتراك في ألمانيا وهاجر الكثير من الهنود والباكستانيين الى بريطانيا· هؤلاء المهاجرون عملوا في مختلف المهن والتي افتقرت للعمالة الوطنية أو المهن التي لم تكن جذابة للمواطنين من سكان البلاد الأصليين، ولا تزال معدلات النمو بين هؤلاء المهاجرين عالية بالرغم من إقامتهم في تلك البلدان ذات القيم العائلية المختلفة عن قيمهم الأصلية، أما في أمريكا الشمالية فقد هاجر الكثير من سكان المكسيك وسكان بلدان أمريكا الوسطى وعدد من بلدان أمريكا الجنوبية الى الولايات المتحدة، بشكل مشروع أو غير مشروع، وكسب الكثير منهم صفة المواطنة هناك·
لكن هذه الهجرات بدأت تولد مشكلات أساسية في المجتمعات الغربية، حيث ارتفعت معدلات البطالة بين المهاجرين الى أوروبا، والتي ترتفع فيها معدلات البطالة الى أكثر من عشرة في المئة من إجمالي قوة العمل، وكما تظهر الإحصاءات فإن معدلات البطالة بين أبناء المهاجرين تزيد عن المعدلات الوطنية مما يزيد من احتمالات انخراطهم في الأعمال غير المشروعة والأنشطة الإجرامية وأحيانا التورط في أعمال إرهابية، كما تعاني من ذلك الجاليات المسلمة في أوروبا وأمريكا الشمالية، في ذات الوقت يعاني المهاجرون الذين بلغوا الستين أو أكثر من مشكلات عدم توفر الرعاية والضمانة الاجتماعي في الولايات المتحدة، خصوصا أولئك الذين لم يتمكنوا من الحصول على الجنسية فيها، وقد اضطر بعض هؤلاء إلى العودة الى بلدانهم الأصلية حيث يمكن لهم أن يتحملوا أعباء الحياة بالمعاشات التقاعدية المتواضعة التي يحصلون عليها·
إن التحديات الديمغرافية التي تعاني منها البلدان الصناعية في الوقت الراهن، سواء كانت متمثلة بانخفاض معدلات الولادة أو ارتفاع أعداد المهاجرين من دول الجنوب أو الشرق هي أيضا ناتجة من مشكلات أخرى في البلدان المصدرة للمهاجرين، هذه البلدان الأقل نموا، تواجه مشكلات ارتفاع معدلات النمو السكاني أو معضلات في عملية التنمية وتراجع فرص العمل أو انعدام الأمن السياسي وتدهور مستويات المعيشة ونوعية الحياة، وإذا كان المختصون في علوم السكان يتوقعون تراجعاً في سكان البلدان المتقدمة وتزايداً في سكان البلدان النامية خلال العقود القادمة فإن البشرية مقدمة على أزمة مهمة، ولابد إذاً، من البحث عن حلول لهذه المعضلة من خلال تبني استراتيجية تنمية عالمية تأخذ بنظر الاهتمام متطلبات البشر في مختلف البلدان وكيفية خلق مجتمع إنساني متوافق·
* باحث اقتصادي كويتي
tameemi@taleea.com |
