جاء الانطباع الذي أجمع عليه مختلف المحللين والمراقبين بأن العراقيين فاجؤوا العالم بكثافة توجههم الى صناديق الاقتراع في مكانه الصحيح تماما·· فلم يكن يدر بخلد حتى أكثر الناس تفاؤلا بأن الإقبال على المراكز الانتخابية حتى في أكثر المناطق والمحافظات التي تشكل معاقل المقاطعين سيكون بذلك الحجم الكبير الذي ظهر عليه حتى بالرغم مما مارسته بعض الجماعات المسلحة المؤيدة للمقاطعين من عمليات تفجيرية وانتحارية استهدفت إفساد العملية الانتخابية وإرهاب الناخبين·
ولئن يكن ثمة مغاز كبيرة لهذا الإقبال غير المتوقع والذي قدر حتى كتابة هذه السطور ما بين 65 الى %70 فإن المغزى الأول له يدل على شدة بأس وشجاعة هذا الشعب وعلى وجه التحديد الناخبين الذين افتدوا التصويت بأرواحهم وأرواح عوائلهم وأطفالهم بتحديهم المخاطر الإرهابية المنتصبة أمامهم·
وفي الوقت الذي عانت فيه قوى سياسية كثيرة بل حتى دول من إقناع شعوب أو فئات منها على المشاركة في الانتخابات وخابت في أحايين غير قليلة مساعيها لتحقيق ذلك رغم استعانتها بوسائل الترهيب والترغيب، وفي الوقت الذي كانت اللامبالاة والاستخفاف بأهمية الانتخابات هي السمة التي تطبع مزاج وتفكير شرائح واسعة من شعوب دول كثيرة لأسباب مختلفة، فإن الشعب العراقي ينفرد ما بين شعوب العالم في شجاعته المقدامة بالاستعداد مقدما لدفع أغلى ثمن - التضحية بروحه - في سبيل ممارسة حقه الانتخابي الديمقراطي·
وهكذا جاءت تهديدات وابتزازات الإرهابيين بنتائج عكسية تماما إذ أراد هذا الشعب وعلى وجه الخصوص شطره المشارك في الانتخابات بشقيه السني والشيعي وسائر مكوناته الإثنية والدينية والطائفية، هو الذي عانى طويلا من العمليات الإرهابية التي استهدفت المدنيين ومنشآته الخدمية أكثر مما عاناه من جرائم الاحتلال - وإن كانت هي الأخرى بالطبع غير هينة - أن يلقن الإرهابيين درسا في التحدي·
إن هذه الشجاعة المقدامة ما كان لها أن تأتي لولا تضافر مجموعة من العوامل المتشابكة:
1 - وعي شرائح واسعة من الشعب العراقي وقواه السياسية بأن الإسراع في بناء المؤسسة أو السلطة التمثيلية للعراقيين المعترف بها دوليا هو الذي يضعهم على بداية سكة الخلاص الحقيقية من كابوسي الاحتلال والإرهاب معا مهما كانت الظروف والمصاعب والمخاطر المحفوفة بهذه السكة بما فيها مآرب الاحتلال وتدخلاته·
2 - توق العراقيين وعطشهم الشديد لممارسة حقوقهم السياسية الانتخابية في تقرير جانب من جوانب مصيرهم للمرة الأولى منذ نصف قرن أي بعد معاناة طويلة من الاستبداد الدموي قل مثيله في تاريخنا العربي المعاصر·
3 - تأثير ودور المراجع الدينية الكبرى في حض الناخبين على المشاركة ولاسيما المرجعية الدينية التي تحظى بشعبية واسعة ممثلة في السيد علي السيستاني فضلا عن دور القوى والأحزاب الدينية الأخرى والأحزاب الوطنية والليبرالية المعروفة بخبراتها السياسية وعراقتها التاريخية والتي عوضتها عما لحقها من انحسار في نفوذها الشعبي·
وعلى الرغم من أن لندن وواشنطن صورتا هذا النجاح الكبير الذي حققته العملية الانتخابية في العراق وكأنه نصر مبين لهما إلا أن ذلك لا ينال بأي حال من الأحوال من أهمية ودلالات ذلك النجاح ولاسيما إذا ما عرف الممثلون المنتخبون كيف يكرسون أنفسهم بهذه الصفة التمثيلية لتحدي الاحتلال وإجباره على الانسحاب في أقرب فرصة ممكنة، وهذا لن يتأتى بدوره من دون الشروع على الفور مقدما في إجراء مصالحة وطنية شاملة بين مختلف القوى السياسية والدينية والقومية للشعب العراقي تتيح أوسع تمثيل ممكن لألوان طيفها في المؤسسات الجديدة وصولا الى مقاربة موقف موحد نحو سبل الخلاص من كابوسي الاحتلال والإرهاب وبناء دولته الديمقراطية الجديدة· |