لو رجع المرء بذاكرته قليلا الى الوراء لتذكر أنه الى ما قبل بضعة شهور من الصيف الماضي كانت أبرز وأهم القضايا التي تشغل بال قوى المعارضة البحرينية - المشاركة منها والمقاطعة - هي قضية التعديلات الدستورية، هذا بالإضافة الى بعض القضايا العامة الآنية الأخرى التي قامت الصحافة بتغطية ندواتها كالبطالة والتمييز والتجنيس والفساد وقانون الصحافة·· إلخ·
لا بل إن المقاطعة تحديدا اعتبرت قضية التعديلات الدستورية هي أم هذه القضايا ومفتاح حلها·
لكن ما إن استجدت في البرلمان قضيتان مهمتان تهمان قوى المشاركة والمقاطعة على السواء كما تهمان المجتمع السياسي بأسره ألا وهما مشروع قانون الجمعيات السياسية ومشروع قانون التجمعات والمسيرات والاجتماعات العامة اللذان تقدمت بهما الحكومة الى البرلمان حتى وجدت هذه القوى نفسها بأن هاتين القضيتين هما الشغل الشاغل الآني الذي يؤرقها فيما أخذت تلك القضايا الأصلية السابقة تتوارى عمليا خلف أولويات أجندتها، والسؤال الذي يفرض نفسه: هل كانت مثل هاتين القضيتين المستجدتين - وعلى وجه الخصوص مشروع قانون التجمعات - قدرا فرض نفسه على القوى السياسية وبخاصة المقاطعة لا حيلة لها فيه إلا بمواجهته؟! بعبارة أخرى للسؤال: أما كان بالإمكان الحيلولة دون أن تتقدم الحكومة أصلا بمشروع هذا القانون، أو ألا يكون على الأقل بصورته التي أثارت احتجاجات المعارضة؟!
بمعنى آخر أكثر تحديدا: هل كانت الحكومة أصلا ستبادر الى تقديم هذا المشروع لو لم يجر ما جرى من زلة لسان في ندوة الفقر بنادي العروبة والتي أجمعت كل رموز القوى السياسية والدينية من دون استثناء على استهجانها وخصوصا أن الحكومة ما انفكت تفتخر بمظاهر المسيرات والندوات كدلالة على ثمار المشروع الإصلاحي، وعلى سبيل المثال ففي التقرير السنوي لمركز الخليج للدراسات الاستراتيجية قائمة رصد لعدد الندوات لعام 2003 (147 ندوة) وعدد المسيرات والاعتصامات (125 مسيرة)؟
وهل كانت "الزلة" ستقع أصلا في هذه المؤسسة العريقة من مؤسسات المجتمع المدني لو تم إرجاء دعوة صاحبها الى هذه الندوة الساخنة الحساسة حيث كانت علاقته بالحكومة حينئذ تشهد توترا متصاعدا معروفا كما سبق أن أوضحنا ذلك هنا قبلا؟!
ثم أما كان من الأفضل أن تكون دعوة الضابط البعثي السابق المتشدد الذي أكد مجددا وهو في استضافة البحرين على تبعية الكويت الى العراق معرضا الحكومة والشعب للإحراج مع الشقيقة الكويت·· نقول أما كان من الأفضل دعوته من قبل جمعية التجمع القومي البعثي بدلا من هذه المؤسسة المدنية العامة (العروبة) التي تهم كل المثقفين على اختلاف انتماءاتهم؟
ثم ماذا لو استماتت قوى المقاطعة بوجه عام و"الوفاق" بوجه خاص بمضاعفة جهودها فوق الجهود المشكورة التي بذلتها وبالتعاون مع رجال الدين للحيلولة دون وقوع حالات من الانفلات الأمني سواء في مسيرات السيارات أم في تجمعات المحاكمة أم في التجمعات والمسيرات الراجلة؟ هل كانت الحكومة ستتقدم بمشروع قانون التجمعات؟ وعلى سبيل المثال ألم يكن تعليق لجنة التضامن مع الخواجة مسيراتها ذا أثر إيجابي ملموس في ضبط الشارع خلال الأيام الأخيرة بعدما بدا الموقف يخرج عن نطاق سيطرتها؟!
ومهما كانت صراحة هذه التساؤلات التي قد لا تعجب البعض فإنما نطرحها بغية حض مجمل القوى السياسية دون استثناء على إعطاء نفسها وهي في لهاث القضايا السياسية اليومية المستجدة والدائمة وقفة استراحة قصيرة للتأمل وإجراء مراجعة موضوعية تقييمية صريحة لمسيرتها منذ انطلاقة المشروع الإصلاحي بعيدا عن الحسابات السياسية الضيقة·
ومن أسف أن تاريخ الحركات السياسية العربية - لا البحرينية وحدها - هو تاريخ طويل من استنزاف طاقاتها في معارك طاحنة ومطالب فرعية أو هامشية أغلبها تتسبب هي نفسها في وقوعها بأخطائها سواء على مستوى الفصائل منها أم على مستوى الرموز والأفراد·· وهذه المعارك تأتي استنزافا ووقتا وجهدا وتضحية على حساب مطالبها الأصلية أو على حساب المعارك الكبرى المفروضة عليها والتي لا خيار لها سوى خوضها·
وما تاريخ نضال مجمل الحركات السياسية العربية في شوط كبير منه سوى تاريخ طويل من اجترار مثل هذه الأخطاء القاتلة دون الاتعاظ من دروس سابقاتها·
إن إنجازات القوى السياسية لا تقارن بما تحققه من مطالب بل بقدرتها ووعيها المعمق ليس في صيانة وحماية ما تحقق بل واليقظة الدائمة في تفادي جرها الى معارك متسجدة تتسبب هي نفسها في وقوعها، ومن المفارقات الغريبة أن التطورات الأخيرة كشفت مجددا بقوة خطأ مقاطعة الانتخابات· |