لو فتش المرء عن أفضل ما يعبر عن رمزية مكثفة عما بلغناه في هذه اللحظات التاريخية من حالة تخلف وانحطاط فكري وسياسي واجتماعي وعلمي شامل على مستوى عالمنا العربي برمته فلن يجد أفضل من معاينة موقع البلدان العربية على ثلاث قوائم عالمية حيث يختزل هذا الموقع بكثافة تلك الحالة المزرية من تراجعنا الحضاري بكل أبعاده وعلى مختلف مناحي الحياة·
ومن المصادفات التي لا تخلو من مغزى أن هذه القوائم صدرت في هذا الخريف تباعا في أوقات متقاربة:
القائمة العالمية الأولى: تصدرها منظمة الشفافية الدولية وقد جاءت في سياق تقريرها السنوي عن مؤشر مدركات الفساد بدول العالم حسب مسح أجري لـ 146 دولة حيث لم تخل قائمة الشرف لأفضل عشر دول في العالم في هذا المؤشر من أي دولة عربية فحسب بل جاءت الغالبية الساحقة من الدول العربية، وبضمنها دول مجلسنا التعاوني، إما في وسط القائمة في أحسن الأحوال، وإما ضمن دول مؤخرة القائمة في أسوأ الأحوال، في حين جاءت الدول الاسكندنافية في صدارة القائمة من حيث مصداقيتها في محاربة مختلف أشكال الفساد كالرشى لإغراء أصحاب النفوذ والقرار للحصول على تمرير صفقات تجارية أو فوائد تجارية أو امتيازات خاصة وغيرها من أشكال الرشى وكسر القانون والتلاعب بالمال العام في القطاع العام علما أن فنلندا تصدرت دول العالم كلها في محاربة الفساد في المعاملات الرسمية·
القائمة العالمية الثانية: تصدرها عادة سنويا منظمة "مراسلون بلا حدود" التي تتخذ من باريس مقرا لها وهي تتعلق بترتيب دول العالم في حرية الصحافة التي يطلق عليها مجازا "السلطة الرابعة" لما لها من تأثير محوري مهم في الرقابة والشفافية على المجتمع والدولة بسلطاتها الثلاث·
علما أن هامش الحرية فيها يعكس بالضبط الهامش الحقيقي لديمقراطية أي نظام سياسي في العالم، ومن ثم فإن تقرير المنظمة السنوي يستند الى معايير عدة لقياس هذا الهامش لعل أبرزها: حرية التعبير عن الرأي، حرية الوصول الى المعلومات وضمان حق تداولها، التعددية الصحافية، وحرية توزيع الصحف، والضمانات المتوافرة لحقوق الصحافيين وحمايتهم·
وقد أعدت القائمة بناء على مسح شمل 167 دولة حيث جاءت الغالبية الساحقة من الدول العربية - ومن ضمنها دول مجلسنا التعاوني الخليجي - في مؤخرة القائمة، ولا بأس من أن تواصل دولنا العربية بعدئذ التباري فيما بينها على صدارة القائمة للدول الأكثر قدرة في الجعجعة والتباهي بحرية الصحافة·
ولما كانت الدنمارك تبوأت المرتبة الأولى في حرية الصحافة فلا غرابة والحال كذلك أن تكون هي نفسها ثالث أفضل عشر دول في العالم في محاربة الفساد، إذ إن التلازم بين حرية الصحافة وكشف الفساد شيء بديهي مفروغ منه إذ لا يمكن أن تتقدم دولة في محاربة الفساد وهي تضيق من حرية الصحافة والعكس صحيح إذ لا يمكن أن تتقدم دولة في حرية الصحافة وتتأخر في محاربة الفساد وكشفه·
القائمة العالمية الثالثة: يصدرها ملحق "التايمز" الخاص بالتعليم العالمي لرصد أفضل 50 جامعة في العالم حيث يجري هذا الرصد بناء على مسح يشمل استطلاع آراء 1300 أستاذ أكاديمي في 88 دولة لمعرفة أفضل الجامعات المناسبة لممارسة وتنمية تخصصاتهم العلمية ورصد كمية البحوث العلمية ومحتواها العلمي، ونسبة الأساتذة الى الطلاب، ومدى جاذبية كل جامعة لجذب الطلاب الأجانب، ومدى حرية البحث العلمي وتطور المناهج فيها·
وفي حين احتلت الجامعات الأمريكية نصيب الأسد في القائمة تليها الجامعات البريطانية فلا توجد جامعة عربية - رغم عراقة بعضها - بين قائمة الخمسين دولة·
والحال لو تتوافر قائمة عالمية لأكثر جامعات العالم العريقة شهدت تراجعا في مستواها العلمي ومحافظتها على تقاليدها العلمية لجاءت جامعاتنا العربية المعروفة بعراقتها في صدارة هذه الجامعات للأسف دع عنك "جامعاتنا" الحديثة التي لا تحسد على حالها· |