الفكر في تكويناته المختلفة هو عصارة الجهد المعرفي وخلاصة التجارب الإنسانية عبر التاريخ·· والشعوب التي أبصرت النور هي التي لفها الظلام قرونا وعقوداً فترهلت فيها الأنسجة النظمية والبنى التحتية واعتكف فيها العقل وأضحى تغييبه مذهبا رسميا وهذا التراكم التخلفي دفع باتجاه التحليل والتنظير والاستقراء للواقع مما شكل مكونا ثقافيا أدى الى نهضة فكرية معرفية أوصلت الى التغيير الشامل بدءا من الذهنية وصولا الى الدولة الإلكترونية من خلال نخبه كانت متصالحة مع ذاتها ومنعتقة من القيود ومتجانسة مع الفكر وهذا ما مكنها من تأمين الرصيد الكافي لصلاحية فكرها الجديد·
رغم غنى منطقتنا العربية الفكري والتاريخي ورغم التطور العلمي والمعرفي الهائل في العالم إلا أنها لم تتجدد ولم تفد من هذا التطور حتى باستخدامه وظل دورها هامشيا بين الأمم لأن كل الأفكار النيرة تتحول لدينا الى نكرة وتصبح صادقة للمجتمع عوضا عن كونها حلا لمشاكله وذلك بسبب رداءة وسائل التبشير··· فالغلو في الصراع والاستهانة في الخصوصية أحد أسباب مشاكلنا النخبوية لأن تلك النخب قد حملت الفكر دون تقطير النفس من الرواسب فأضاف إليها لمعانا وبريقا وحضورا ولكنها لم تضف إليه شيئا بل سوّرته بحزام من الكراهية والنفور والعزلة من خلال التركيز على الجانب الأكثر تحديا لمشاعر الناس والأكثر استفزازا لهم فالماركسية بشقها الجدلي والتاريخي لم يصلنا منها إلا الإلحاد فقط والقومية التي أحيت الأمل والحلم وبشرت بالغد المشرق لم تختزن الذاكرة من حضورها سوى الشمولية والدولة الأمنية، والإسلام السياسي لم يكن أحسن حالا إذ حمل فتاوى التكفير شعارا ومنهجا فوأد الوسطية وزاد المأزق، والليبرالية التي حملت لواء الحداثة فانجرفت الى المواقع الإلغائية واقتربت كثيرا من التبعية من خلال دعواتها الإقصائية لبعض الأطياف وارتباطها الروحي والمصيري بالغرب وحولت مفهوم العلمانية من الحياد تجاه الأديان الى خصم وندّ لها· وهذه الصور المشوهة عن هذه الأفكار قد طبعت الذاكرة العربية وأقنعتها بأن الكل في السوء سواء ولا فرق بينهم إلا بالتسميات والحل هو الانزواء وانتظار الفرج· وهذا ما يفسر عزوف الشارع عن المشاركة السياسية وخلوه من قيادة فاعلة تدفع به الى الضغط والتأثير لأن هذه السلوكيات هي أحد أسباب هذه المعضلة، ورغم أن أكثر القوى السياسية من اليمين واليسار قد رفعت شعار الديمقراطية كحل ومدخل للتغيير ولكن أدواتها ما زالت بعيدة عن هذا المفهوم طالما أن الفرقة والحدود الأيديولوجية ما زالت تفصل بين هذه القوى ورفض الأحزاب المصرية المعلنة اللقاء والحوار والتفاهم مع التيار الديني على أولويات المسألة الوطنية خير مثال على ذلك·
النموذج الديمقراطي المستجلب من صواريخ كروز وسجن غوانتنامو وأبو غريب والذي تروج له بعض القوى وتدافع عنه·· نموذج غير قابل للصرف والتصدي له مهمة وطنية وقومية ودينية·· فالديمقراطية فكر حضاري وتحقيق شرطها يتطلب أدوات حضارية وأخلاقية وما يحدث لا يمت لهذا الفكر بصلة بل هو أقرب الى ثقافة الطرق ورعاة البقر· |