إن المتتبع للأحداث التي أثيرت في فرنسا أخيرا "موضوع حجاب الطالبات"، لا يمكنه وتحت أي مبرر كان إلا لينقلها في خانة اللعبة السياسية ومصالحها النتنة·· فما هو معروف للمراقبين السياسيين أن بلداً كفرنسا يحمل في طياته دستوراً متسامحاً يحمي في صياغته حقوق العامة على أرضه دون أي تمييز كان، وما لهذه الأحداث الأخيرة أن تقع إلا انعكاسا واقعيا لتطبيق تلك الآلية الدستورية وتفعيلها بما يخص إرادة العامة ومطالبها··· إلا أن لذلك ثمناً، وثمن الحرية هنا جاء باللعب بمكتسباتها، أي بالعبث بمقدراتها الذاتية، فالموضوع من أساسه مسيس حتى النخاع ولا شأن له بالحرية الشخصية كما يحاول بعض المتأسلمين هنا إظهاره، ومن المؤسف حقيقة أن يُقدَم دين معين لكي يزج به "وبهذه الطريقة البائسة" في أتون السياسة ومزالقها الوعرة خدمة لهدف ما هنا أو لقضية ما هناك·
فمتى كان لبلد كفرنسا قضية اجتماعية شغلت بال الصحافة والإعلام ودور العلم كهذه القضية؟ ومن صاحب المصلحة الفعلية من إثارة نعرة الطائفية في بلدهم؟ ولماذا الآن بالذات؟ خصوصا إذا ما عرفنا أن الدين الثاني في فرنسا ومنذ عقود هو الإسلام، ويكفي أن نلقي بنظرة الى شوارع مدينة مارسيليا في صلاة يوم الجمعة وما يفترشه المصلون من سجاد لإقامة شعائرهم ضاربين عرض الحائط بما يؤديه ذلك من إغلاق للشوارع الداخلية للمدينة وما قد يسبب هذا من ربكة بالمرور وغير ذلك من مظاهر التعبير الحر للجاليات المسلمة وغيرها في جميع أنحاء فرنسا، فمن اعترض؟ مارس ما شئت من معتقد، فأنت حر طالما لا يمس ذلك أصرح السيادة الوطنية وعلى رأسها دور العلم·
إن الشواهد كثيرة ولا يمكن حصرها في هذا المقال المتواضع عما يمارسه العامة وبكل حرية في بلد عظيم كفرنسا، ولولا تشدقه وإيمانه المطلق بحرية التعبير وحرية الأقليات في إقامة ما تشاء من معتقد، لما شاهدنا أصلا كل هذا الهرج والمرج يحصل في ثناياه·
كل تلك التساؤلات التي ذكرناها هنا تشير الى وجود حدث مصطنع، لا علاقة له بدين أو بحجاب طفلة بمدرسة، إنما الأمر في اعتقادنا أكبر من ذلك بكثير، فالكل يعلم أن الرئيس جاك شيراك مؤسس حزب التجمع من أجل الجمهورية R.P.R الديغولي الأصل، يعتمد في سياسته الخارجية على الوسطية، فما زلنا نتذكر مقولة الجنرال ديغول عن حرب 67 بأنه ضد من يبدأ الحرب، وفعلا وقف هذا الرجل ليناصر بهمة قضايا العرب وعلى رأسهما قضية فلسطين، وكان إيمانه بذلك وقف العنف أينما كان وفي أي بقعة من العالم، حتى إذا ما أتى الرئيس المبجل الحالي ليستمر بسياسة سلفه بما يخص الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، ليصطدم بذلك بمن هم من غير مؤيديه في داخل فرنسا، بل بمن شن عليه الحرب السياسية وخصوصا في أيام الانتخابات البلدية التي سيجري التحضير لها في الأيام القليلة المقبلة·
ولا عجب أن يكون الحزب المناوئ له والند السياسي هو حزب الجبهة الوطنية F.N بقيادة الزعيم الفاشستي جون ماري لوبان، ولهذا الرجل صولاته وجولاته بما يخص الجاليات المهاجرة في فرنسا، وخصوصا العربية منها، فهو صاحب شعار فرنسا للفرنسيين في حملاته الانتخابية، وكل ما قد حصل عليه من دعم من قبل التجمعات اليمينية المتطرفة La droite exterme تمت تغذيتها بأن المهاجرين هم السبب الحقيقي لبلاء فرنسا وهم وراء بطالتها، وغير ذلك من الأطروحات الساذجة التي مع الأسف تم الزج بها عنوة لتخدم مصالحهم السياسية، ويكفي هنا الإشارة بما حصل من أحداث أطفال الحجاب بالمدارس الوطنية وكيفية محاولة خدمة غرضهم المشبوه·
لذا لا يمكننا إعطاء الموضوع هذا حقه في هذه العجالة دون التمعن بما هي عليه الأمور في بلد كفرنسا، بلد يحمل جميع المتناقضات الروحية والثقافية والحضارية في حضنه، لا بد أن يلتف على روحه الراقية بعض من أصحاب المصلحة، وهذا ما حصل وللأيام الحكم· |