تعود نظرية المؤامرة لتبرز بشكل واضح ومجهري مع تداعيات الوضع إثر إلقاء القبض على صدام حسين، حيث عاد الجميع خاصة على مستوى أجهزة الإعلام العربية ومنتدياتها النقاشية والحوارية، عادوا جميعا لإثارة قضية المؤامرة الأمريكية التي أفرزت ما أفرزت من أحداث وتداعيات، ولا تخلو بعض تلك التحليلات من الغرابة التي تصل أحيانا الى حد الفكاهة فمن شكوك حول انصياع واستسلام "القائد الضرورة" للفحص الأمريكي المهين، الى التشكيك في توقيت عملية الاعتقال بسبب شجر النخيل المثمر الذي ظهر في موقع الاعتقال، وأيضا الشكوك في احتمال أن يكون صدام حسين مخدرا قبيل اعتقاله ومن ثم فحصه من قبل دكتور من الجيش الأمريكي، أحد تلك التحليلات الطريفة تقول إن عملية اعتقال صدام تمت بترتيب و"فبركة" أمريكية والدليل على ذلك وجود شوكولاته من نوع "باونتي" في الثلاجة الموجودة في المنزل الطيني قرب جحر صدام حسين·
لقد عكست ردود الفعل والتحليلات التي أعقبت القبض على صدام حسين ذلك الفرق الشاسع بين العقلية التحليلية العربية، وبين نظيرتها الغربية، وبالطبع فقد انعكست تلك العقلية وسيرت الأوضاع السياسية والاقتصادية في كلا العالمين: الغربي من جهة والعالم العربي من جهة أخرى، فبينما يمعن "العقل" العربي في البحث عن الشبهات التي قد تبرر موقفا ما، وبحيث تتجمد الخطى والقرارات وتتمحور كل الجهود العقلية والتحليلية عند خانة الشكوك والنفي، تنطلق العقلية الغربية الى ما وراء الحدث لترسم على ضوئه خطوات ورؤى المستقبل، الرؤية العربية لا تزال تصر على التوقف جمودا عند رواية المؤامرة الأمريكية، دون أن تكون لديها رؤية واضحة أو خطوة جريئة للتعامل مع هذه المؤامرة، بينما تتخطى الرؤية الغربية الحدث ذاته لتطل من خلال تداعياته على الخطوات المستقبلية·
جزء كبير من تعثرنا السياسي والفكري والاجتماعي كمجتمع عربي يعود الى أننا نستعذب جلد الذات ونجهل نقد الذات أو نرفضه إن جاز التعبير، ويتملكنا خوف يكاد يصل أحيانا الى درجة "الفوبيا" أو الخوف المرضي من مسألة الهيمنة والسيطرة الاستعمارية بصورة جعلتنا نتغاضى عن الهيمنة الحقيقية المتمثلة بصيغة الأنظمة السياسية القمعية المسيطرة على الوضع السياسي العربي، كنظام الحزب الواحد، وصيغة البقاء في السلطة دون مراقبة أو محاسبة ودون سقوف زمنية، مما جعلنا لا نرى أبعد من مخاطر الاستعمار الأجنبي ونتخيلها بألف صورة وألف شكل، لنبقى أبد الدهر أسرى خوفنا هذا الذي قادنا الى الشك والخوف من الآخرين ونفيهم أو إلغائهم·
حين قطع التضامن العربي في العام 1973 إمدادات النفط عن أوروبا وغرقت القارة العجوز في ظلمات شتائها القارس، لم يتوقف الغرب عند تحليل المؤامرة العربية أو تصنيفها أو التنديد والتذكير بها، بل كانت ردة الفعل قرارا اتخذه وزير الخارجية الأمريكي آنذاك هنري كيسنجر بالسعي لعدم تكرار الأزمة ومنع العرب من استخدام سلاح النفط سياسيا، فكان أن صاغت الإدارة الأمريكية سياستها واستراتيجيتها المستقبلية وفقا لتلك الرؤية ونجح الغرب في السيطرة على الثروة العربية ومنابع النفط كما هي الحال في المشهد العربي الراهن·
لقد انشغل العالم العربي بصورة "عذق البلح" في الموقع الذي تم فيه اعتقال صدام حسين وتفلسف أساتذة الزراعة والإنتاج النباتي في شرح مشكلة "عذق البلح" حتى كاد الجميع أن ينسى الدرس الذي وجب علينا أن نتعلمه حول مخاطر ديكتاتوريات وأنظمة قمعية كنظام صدام حسين، وطغت جدلية صباغة شعر وحواجب صدام حسين على كل الحوارات·
إننا نعيش أزمة فكر وشح في الرؤية المنطقية والمثمرة أفرزت واقعا مسخا تعشش فيه الطواغيت وتنمو فيه ديكتاتوريات غذاؤها جهل شعوبها، وكساؤها رؤى جاهلة لا ترى أبعد من أنفها، نحن لا نعيش مخاطر هيمنة أمريكية أو غربية، وإنما نعيش حاضرا مليئا بكل أشكال الهيمنة القمعية المتسترة برداء أنظمة سياسية خالدة!!
suad.m@taleea.com
|