نحن هنا فقط لأننا يجب أن نكون هنا··· فقط لأننا يجب أن نكون هنا··· يا للعنة··· أنه البرد القارس··· الوحل··· والمطر··· المطر·· الوحل·· والبرد القارس···
كانت تلك هي مقدمة كتاب عام 1915: مصرع الأبرياء - للمؤرخة لين ماكدونالد المتخصصة بشأن أوروبا في أثناء الحرب العالمية الأولى، حيث لها في ذلك الكثير من المؤلفات التاريخية التي تعالج بها أسرار الحرب وما آلت إليه من كوارث بشرية منها أو تلك المادية على قارة أوروبا والعالم أجمعه فيما بعد، إن تصفح كتاب جيد كهذا وما به من عبر حول موضوع الحرب والدمار، لا شك به بأنه يحيط الناظر الى تلك المسألة بأضرار فكر العسكر والانفراد بشعوبهم وبغفلة من أيامهم، حتى تأتي فيما بعد المصائب حبلى بما أنتجته الآلة العسكرية وعلى جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية منها، نصوغ ذلك فقط لكي نأخذ من التاريخ العبر، فها هي أوروبا بعدما طحنتها حربان عالميتان قضتا على الأخضر واليابس من كيانها، وذلك بسبب تعنت الفكر الفاشستي آنذاك، وما أفرزه ذلك الفكر من صدى نشاز عبث بحضارتها وتاريخها الإنساني، كل ذلك كان ممكنا تفاديه لو جنحت الأمور الى اجتثاث فكر الفرد وعبوديته "كما هي الحال لدى الكثير من دول العالم الثالث الآن"، والسماح الى صوت الشعوب في التعبير الحر بالطريقة الديمقراطية الحقة، وفي احترام حقوق الفرد والجماعات وصهر تطلعاتهم الوطنية بمؤسسات مدنية تنشلهم والمجتمع بأسره من واقعه المتخلف، إلا أن الرياح سارت "بما لا تشتهي السفن" كما يقال، فوقفت النازية والفاشستية وما لف بفلكهما لكي يطمسا بعنجهيتهما كل من هو حر ومتحضر، حتى آلت الأمور فيما بعد الى ما آلت إليه، إلا أن الشعوب الحية لا تنسى ولا تغفر، فقد نهضت أوروبا من جديد ومعها كل الدول الحرة لكي تعيد قراءة الدرس مرة وألف مرة، وخرجت من واقعها المزري هذا حاملة لواء الحرية مرة أخرى، فاسحة الطريق من أمامها وبمصراعيه للمستقبل الواعد، وأدركت أن فكر الفرد قد ولى وولت معه المبادئ الشمولية النتنة التي كان يحتضنها، فكان لها ما أرادت، لم تلتفت أوروبا بعد الحرب الى ماضيها، ولم تخرج منه تراتيل اللاهوت البالي حتى تخلص ذاتها مما آلت إليه، ولم تستجد عطف الآخر، بل كان مفتاح التغيير هو العمل الجاد في إيجاد فلسفة روحية جديدة تتشدق شعوبها بها، وكانت تلك الرؤية الجديدة في تفعيل دور العلم بالدرجة الأولى وإعطائه سلم الأولويات، وإبراز دور المجتمع المدني بالخدمة الواعية بمؤسسات بلادهم، وما كان هذا ليحصل دون صياغة قوانين ودساتير فاعلة تهدف في أدبياتها الى المزيد والمزيد من الحريات، وفي مقدمتها الحريات العامة، والنهوض بالفكر الليبرالي المتسامح والمدرك لأهداف مجتمعه السياسية والاقتصادية والفكرية منها، دون ذلك لم يكن بالإمكان نشل ما لا يمكن نشله·
مرة أخرى نعود الى عِبَر كتاب الكاتبة لين ماكدونالد لكي نقارن وضعنا المأساوي بما حصل بالعالم بعد الحربين العالميتين سيئتي الذكر، وهنا ندعو أنفسنا الى وقفة من التأمل دون الخوض بتفاصيل ما نحن عليه، لأن الإناء بما فيه قد نطق وما زال ينطق حتى الصراخ، ولا من أمل على ما يبدو وهناك، والشاهد على ذلك اجتماع تونس الأخير· |