لقد شهدت الجمهورية الفرنسية في الأيام القليلة الماضية مجموعة من أحداث العنف والشغب لم تعرفها البلاد من قبل، حيث قام مجموعة من الشباب من قاطني ضواحي المدن الفرنسية الكبيرة كباريس العاصمة وليل ومارسيليا وتولوز·· وغيرهما من المدن الصناعية الكبرى بأعمال عنف تمثلت بحرق وتدمير الممتلكات الخاصة والعامة في البلاد، والمتابع لهذه الأحداث الدامية يمكنه التركيز على بعض من مسبباتها الرئيسية:
أولا: البعد الاجتماعي، حيث صعوبة اندماج الأجيال الفرنسية الحالية المنحدرة من أصول أفاريقية في بوتقة المجتمع الأم، ولهذه الفرضية خصوصيتها وأبعادها التاريخية والسياسية والثقافية بالنسبة للمجتمع الفرنسي، الذي طالما خاض نقاشا عرقيا حول مقوماتها وأسبابها المتفرقة· فالمعروف ديموغرافيا أن فرنسا تحتضن على أراضيها أكثر من ستة ملايين ملون أكثرهم من منطقة شمال إفريقيا وإفريقيا السوداء، وهؤلاء يشكلون نسبة لا بأس بها من جيل المهاجرين الثالث، وهم مواطنون فرنسيون يتمتعون بكامل حقوق المواطنة، كما عليهم واجبات المواطنة سالفة الذكر·
إلا أن الأمر يتعدى مع شديد الأسف تلك البوتقة القانونية ليدخل في دهاليز التمييز العنصري ومطباتها البغيضة، فلا زال هناك البعض نقول البعض، من ينظر إلى هؤلاء المهاجرين كمواطنين من الدرجة الثانية (وتأتي الجبهة الوطنية Le front national، حزب جان ماري لوبان السياسي على رأس المطالبين بعودة المهاجرين إلى ديارهم)، وهذه النظرة الدونية تطورت في مفاهيمها حتى أصابها مرض اجتماعي عضال صعب، مع الوقت، استئصاله أو حتى في أحسن الأحوال تحاشيه·
ثانيا: البعد الثقافي· وهذا البعد يعد في اعتقادنا من المسببات الرئيسية لتلك الأحداث الدامية، فبالرغم من إيمان الدولة الفرنسية المطلق بالتعددية الثقافية، وضماناتها القانونية، وتسامحها اليقيني في ممارسة جميع أفراد الأقليات الأثنية لحقوقهم كاملة على أراضيها منطلقة بذلك من مبدأ الحرية المسؤولة (نشدد على صفة المسؤولة هنا··)، إلا أن بعض الأقليات الأثنية، كمجتمعات شمال إفريقيا وقفت ومنذ أوائل هجرتها على خصوصيتها الذاتية وبصرامة غريبة في بعض الأحيان، وهذا من الناحية الثقافية تصرف لا غبار عليه في بلد يؤمن بالحريات وتعددها·· إلا أن ذلك التصرف تعدى بل تحدى في كثير من الأحيان (مثال الطالبات المحجبات في التعليم العام وما أثير من لغط حوله··) قوانين البلاد، بل ساوم على مبادئ الجمهورية السمحة في هذا الجانب، حتى دخل في صراع كان من الممكن ألا يكون، لو أن الأمور أخذت بمسارها الطبيعي العام وضمن صياغة احترام القوانين الوضعية للبلد·
ثالثا: البعد الاقتصادي· وتتصدر البطالة قائمة المشاكل الاقتصادية في فرنسا، ويشترك المجتمع بكل فئاته في هذه المحنة، إلا أن الأمر أشد بالنسبة للمهاجرين وأبنائهم الذين لم يسعفهم الحظ في تعليم جيد قد يقيهم سنوات الانتظار الطويلة للحصول على عمل، فتكثر في صفوفهم المشاكل المادية وتتعدد المعضلات الاجتماعية والأسرية في محيطهم مما قد ينعكس في بعض الأحيان على تصرفاتهم الشخصية·
أما البعد السياسي في هذه الأحداث، والأشد مرارة في تقديرنا المتواضع، فلا شك بأنه يتمثل بقوة فيما يسمى الآن بتصدير الإرهاب وعلاقة ذلك بأحداث لندن الأخيرة، حيث أصدرت الجمهورية الفرنسية قوانين طارئة لمكافحة الإرهاب، واعتماد وزير الداخلية ساركوزي على الشدة والصرامة لعلاج هذا الأمور، مما قد يشكل نوعا من الضغط على تلك الجاليات وبخاصة الشمال إفريقية منها، حتى ساهم مجموع هذا كله في إيقاد فتيل ذلك الاحتقان وتطور الأمر إلى ما آلت إليه الأحداث بهذا الشكل المفزع·
kfaras@hotmail.com |