يعتبر التعليم في أي بلد كان مقياساً وواجهة حقيقية لمدى تطوره ورفعة شأنه بين الأمم، هذه في رأينا مسلمة لا يختلف عليها اثنان· فلقد دأبت الأمم المتحضرة منذ اعتمادها أسلوب التعليم الحديث والمعاصر (بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى) بأن تنأى وبكل حزم بزج نظامها التعليمي في أتون دهاليز الممارسة السياسية، وذلك حرصاً عليه (أي التعليم) من الانزلاق في مستنقع السياسة المعتم وحيث لا يكون مصيره سوى الطوفان، وهنا تكمن الكارثة، حين لا يجني المجتمع بالمحصلة سوى العبث والمزيد من العبث بمصيره ومصير أجياله القادمة· لذا، ومن هذا المنطلق، تحاول الأوطان الحية الواعية أن تعمل جاهدة على شل أي يد كانت تحاول تسييس نظامها التعليمي أو العبث بمكتسباته العلمية الثابتة، فلا هرج ولا مرج بذلك··· فقط لأنها تعلم مصير من عبث بتلك المكتسبات التعليمية·
نصوغ كل هذا ونحن نسمع من البعض منا من ينادي برسم سياسة تعليمية للبلد تناسب معتقده وفكره، ففي تصريح لإحدى الصحف المحلية في الأسبوع المنصرم، أدلى بدلوه النائب الهمام محمد البصيري بأن (حركة "حدس" ستضع في أولوياتها النظر بمسألة التعليم وما آلت إليه تلك المسألة التعليمية من انحراف في مسارها وتخبط في إدارتها، وما نحن بصدده هو إعادة النظر بهذه القضية الحساسة ضمن ثوابت تقاليدنا "الإسلامية" ورايتنا الشرعية)··· وما إلى ذلك من مفاهيم أيديولوجية خاصة بالنائب وحركته الغيورة جداً على الوضع التعليمي في البلاد على حسب قوله··· كل ذلك وغيره من الاطروحات لا شك بأنها تمثل وجهة نظر النائب، وله كل الحق بالتعبير الحر عن رأيه وفق ما كفل له الدستور، لكن أن ينهي تصريحه بالتالي: (إننا نتطلع بأن نبعد التعليم من الزج به بأتون السياسة)·!!! هنا لا نملك غير أن نندهش وبامتعاض شديد عن هذا التناقض المذهل بفكر النائب المبجل، فليعلمنا هنا كيف له بأن يريد ابعاد التعليم عن التسييس وهو الذي يرسم ويحدد لنا الأطر الثابتة السابقة الذكر؟ أليس فيما ذكره تضليل لعقولنا؟ بل هي السياسة التعليمية التي يحلم بها نائبنا بعينها؟ وإلا ماذا يعني كل ذلك؟
نقول للأخ النائب وغيره، إن كنتم فعلاً غيورين على مسألة التعليم في هذا البلد، وإن كنتم فعلاً صادقين فيما أنتم بصدده، ابعدوا أنفسكم عن العبث في نظامنا التعليمي، احترموا عقول الناس قليلاً، امنحوا العامة حقها في اختيار تعليم أبنائها ومن دون وصاية··· فما أصاب التعليم من عبث، وما أصابه من علل نخرت بجسده حتى النخاع، حتى أصبح من كثرة العلل نظام تعب لا يرتقي بصورته الرثة الحالية إلى مصاف نظم العالم من حولنا، فإن كنتم على دراية من أمركم، أم إن كنتم على غير دراية (وهذا مما نشك به)، فقد أزحتم بحماسكم هذا الكثير من العطاء والإبداع العلمي لدي الناشئة، وحولتم بهممكم مقرات العلم اليافعة إلى أوكار ترفع شعارات التسييس الحزبي، فلا نشاط ولا حيوية ولا إبداع لدى الناشئة خارج منظومة الفكر الأوحد، وقس على ذلك المناهج التعليمية البالية من كثرة العبث واللعب بها، حتى أضحت أسيرة التقوقع على ذاتها، فلا تطوير بأساليبها ولا حتى تجديد في محتواها··· ومن يجرؤ على التطوير أو التجديد؟
الكلام يطول في هذا الموضوع لما له من تشعبات ومدخلات كثيرة لا مجال هنا لذكرها، ولسنا هنا بصدد تحليلها، إلا أنه من الواجب تسليط بعض الضوء على ما نعتقد بأنه انحدار في مؤسساتنا التعليمية من محاولة جرها إلى نفق السياسة المعتم·
ليعلم كل مخلص جاد ممن أؤتمن على تربية النشء من متبوئي مسؤولية التعليم، بأن مهادنة تيارات الترهيب الفكري لا يجنى منها في نهاية الأمر سوى مزيد من الانزلاق والانحدار نحو الهاوية، فيحل للمسؤولين مهادنتهم في أية قضية أخرى، واللعب معهم كما يشتهون إلا في مسألتين هامتين هما في اعتقادنا المتواضع يمثلان صلب المجتمع وعاموده الفقري، وهما التعليم والوعي العام، فإن طاب اللهو في هاتين المسألتين الخطيرتين اجتماعياً، فلسوف ينقلب السحر على الساحر ومن ثم لا ينفع اللوم· فهل لهذا الموضوع ما يستحق منا التفكير أو التذكير؟
انها حقاً لدعوة جادة لجميع أطراف المجتمع مجلساً وحكومة وأيضاً للعامة المغيبة منا بأنه قد آن الأوان (ولو انها دعوة متأخرة) بأن نفكر جدياً وبشكل عقلاني هادئ في مصلحة تعليم أبنائنا أجيال المستقبل الذي يراهن البلد عليهم، إن أردنا بأن يكون لنا مكانة فعلية بين الأمم الواعية لمستقبلها· |