عندما وصلت الدبابات الأمريكية الى بغداد في العام 2003 وسقطت تماثيل الرئيس في الساحات العراقية، برز الوجه الأول من السقوط الحقيقي للنظام، مع العلم أن رموزه الهاربة والمطلوبة ظلت تمارس لعبتها السياسية كحزب سياسي تسلطي ونظام دكتاتوري دموي مكث في السلطة لأربعة عقود، كجزء من حقبة بغيضة للحرب الباردة ومصالحها الكريهة، وسنتحدث في هذا الصدد لاحقا وكيف دفع المناهضون للبعث الصدامي (قوميون عرب، شيوعيون، وبعثيون وغيرهم من الوطنيين) من أرواحهم وحياتهم ثمنا كبيرا وتضحيات عظيمة على حساب عيشهم وسعادتهم وحرمانهم من الأهل والأقرباء، فاحتضنتهم السجون والمنافي، احتضنتهم القبور الجماعية كجثث منسية بلا تواريخ وشواهد للقبور· كان سقوط النظام تحولا تاريخيا تعزز في تلك الصورة التاريخية عندما تم إخراج الدكتاتور من حفرة وكأنه يخرج من جحر للفئران بهدف إظهار حالة الدكتاتور السيكولوجية كمختف وهارف في ذلك المربع الصغير والمخبأ السري في مزرعة نائية كمكان سري لكي يقود الدكتاتور القائد مسيرة النضال ضد الإمبريالية الأمريكية (العلوج)، التي لم تستطع قواته منازلتها والصمود أمامها لمدة طويلة، فكان السؤال أين كانت تلك القوة العسكرية للطغمة الحاكمة؟! يومها تحولت موازين القوى أكثر لصالح المعارضة التي جاءت مع الاحتلال وانهيار النظام بكل سهولة، يومها راهن الكثير على أن الاحتلال سينجز مشروعه بسهولة وفي فترة أقل مما كان يتوقع المراقبون بكل ما أفاضوا به من اجتهادات سياسية وتنظيرات ما أنزل الله بها من سلطان، مثلما أيضا بالمقابل زعق الآخرون بأن العراق ستكون فيتناما ثانية للأمريكيين وبأنه سيصبح مستنقعا صعبا يفوق تقديرات البنتاغون وتقديرات الأجهزة السياسية والأمنية في الولايات المتحدة· بين مبالغة المنهجيين في الإفراط تشاؤما بأن العراق لن تقوم له قائمة بعد اليوم وسيصبح بلدا مفككا وبين التفاؤل المفرط بترتيب البيت العراقي بكل سهولة، كانت تدور محاكمة الدكتاتور، وكأنما العراق بلد صغير وبتكوينات سهلة في اللعبة الداخلية والإقليمية والدولية، متناسين أن سقوط النظام بتلك الآلية وفي ظروف ما بعد الحرب الباردة وحرب البلقان وضرب البرجين وبروز طالبان والقاعدة والحركات الإسلامية والوجود الإيراني المجاور لأفغانستان والعراق ودول الجوار الأخرى، كلهما تساهم في ديمومة النزاع واستمراريته لوقت أطول، خاصة أن هناك مشروعا أوسع من موضوع العراق منفردا، حيث يسعى العالم الحر والنظام العالمي الجديد الى إعادة رسم الخرائط حسب كل مرحلة تاريخية لها خصوصياتها، وتشكل خارطة الشرق الأوسط الجديد من أهم مفاتيح المرحلة ويأتي تفكيك العراق حيوية ضرورية من أهم تلك المفاتيح في المنطقة، مثلما هناك مفاتيح حيوية ضرورية تنتظر دورها في التفكيك في الأجندة الأمريكية والعالمية·
كان بإمكان الأمريكيين إنهاء اللعبة بسرعة حالما قبضوا على صدام تحت حجج عدة فخلق القصص وسيناريوهات التصفيات لا تحتاج الى خبرة عميقة لدى دول بحجم الولايات المتحدة، غير أن الأمريكيين تعمدوا توظيف قضية الاعتقال ثم المحاكمة كجزء من أفضل القصص التي لم يستطع حتى كافكا خلقها في أعماله الروائىة (رواية المحاكمة / فرانز كافكا) إذا أرادت الولايات المتحدة أن تقدم صدام للعالم كدرس تاريخي، حيث تاريخ الشرق الأوسط يموج بالقمع ومصادرة الحريات وبتلك المحاكمة يكون صدام النموذج الأكثر بروزا على المسرح العالمي، ولم تكن العبرة في محاكمة بينوشيت مهمة أكثر من محاكمة ميلوسوفيتش وإنما لكل شخصية نكهتها السياسية، لهذا تصبح محاكمة صدام عبرة تاريخية لم يحدث في المنطقة إطلاقا، بل لم يهم الأمريكيون ماذا سيقول رجال القانون - المختلفون والمتفقون فقها وتشريعا - بقدر ما كان يهمهم الهدف السياسي من المحاكمة كرسالة سياسية - تاريخية أولا وأخيرا لكل شعوب المنطقة وتحديدا الشعب العراقي، الذي عاش ظلامية العقود الأربعة، من يبحثون عن النص وكاتبه ومخرجه فلن يعثروا عليه فجميعهم موتى مدفونون في التاريخ لقسوة ذلك الطاغية وحكمه الأسود، من يتوقفوا لمأساوية الشعب العراقي ومجازر الدكتاتور وأخطائه وبشاعته عند الحرب الإيرانية العراقية فقط أو غزو الكويت أو قضية الدجيل والأنفال، فهم سذج بالضرورة أمام حقائق التاريخ، فما فعله الزعيم الضرورة منذ عام 1963 - 1968 حتى لحظة سقوطه يدركها عائلات وأهالي كل الذين مزق الطاغية أجسادهم وأجساد أقربائهم، وهم بالآلاف فكانت جريمة الاتحاد السوفييتي يوم ذاك والمعسكر الاشتراكي أنه باع الرفاق بثمن بخس من أجل عيون النظام مراهنا على مقولة إمكانية تطور النظام اللارأسمالي وكان نظام صدام البعثي من منظورهم نظاما تقدميا ومعاديا للإمبريالية العالمية!! ولا يهم ماذا يفعل في الداخل برفاقهم، الذين كانوا يئنون ويشكون حسرة في موسكو على تلك الطروحات والمواقف· ولكن ماذا يفعل الشيوعيون العراقيون بين سندان موسكو ومطرقة صدام؟! فدفعوا ثمنا باهظا، لقد اختفى كاتبو النص الحقيقيون وممثلو اللعبة والضحايا في جسد التاريخ وظل أخيرا المسرح والستارة لحقبة قاسية، فكان بالضرورة أن يتم تهديم ذلك المسرح البشع بقتل الدكتاتور بعد محاكمته أمام العالم والشعب وإسدال الستارة للأبد في تاريخ العراق المؤلم·
من يظنوا ويراهنوا على تحولات دراماتيكية أكثر مما هو عليه الواقع العراقي فهم واهمون، فالمسألة لن تتجاوز وقتا محددا لكي يتم اصصياد الجسم التنظيمي للحزب الهارب وتحديدا الهيكل الأمني وبقايا من يعتقدون أن قائدهم سيخرج من قفصه للحرية ليعود الى سدة الحكم· بل هناك اعتقاد أكثر بلاهة بأن الأمريكيين مستعدون لمساومة الرئيس بإيقاف مجموعته، متناسين أن حزب البعث بات مجموعة من القبائل السياسية المتشظية والمستعدة للمساومة بسهولة من أجل امتيازات سياسية جديدة من مقاعد السلطة، ما تعلمنا إياه دروس التاريخ أن الخيانات والصفقات والتسويات السياسية كثيرا ما باعت أهم الشخصيات المقربة، غير أنها تصبح أسهل عندما تختفي تلك الشخصية من خشبة المسرح السياسي ويشاهدها الناس معلقة ومشنوقة لكي لا يتوهموا بعد ذلك أن قائدهم سيخرج مجددا لتحريرهم من المحتلين، فهتافه عاش الشعب عاشت الأمة يسقط الاحتلال لا يخلق معجزة جماهيرية، فهناك شعب عراقي آخر غير تلك الأقلية من الأطفال التي خرجت في احتجاج يتيم على حكم الإعدام بشنق زعيمهم· |