يخطئ من يظن أن الانتهاء من جولات الحرب النظامية القصيرة في بلد ما تشابه جولات أشكال المقاومة الشعبية وحرب العصابات في الأدغال أو المدن، ففي الأول يسهل ضرب ومحاصرة الطرف المواجه، فهو موجود في مواقع وجبهات ومراكز ثابتة وواضحة وسهل رصدها وكشفها بالتقنية الحديثة من الفضاء، ولكن ما يصعب اكتشافه بسهولة، هو ذلك الفرد العادي في النهار ورجل المقاومة في الليل، وبقدر ماهو سهل الذهاب إلى بيت جنرال معروف لكي يتم اعتقاله، بينما يصعب متابعته إذا ما تغير مكانه واختبأ في بيت مواطن عادي والأصعب أكثر أن يصبح ذلك المواطن العادي شخصا غير معروف الهوية، ويعيش بين الآلاف تحت قناع مهنته وحياته اليومية الطبيعية والروتينية، من الذي بإمكانه أن يشك في بائع الخضار في سوق الخضروات إذا ما كان في الليل شخصا مقاتلا، أو بإمكانه معرفة خباز الحي الذي يبتسم للناس في محله، بينما يعيش خلف أكياس الطحين في مخزنه الرئىس الهارب، وتتحول مواقع من هذا القبيل إلى وكر ومكان للقاء القيادة التنظيمية المصغرة، من يشك في العناصر اللوجستية من النساء الشعبيات والمراهقين، الذين ينقلون معلومات مهمة كحلقة اتصال بين قواعد وكوادر تنظيمية في مناطق مختلفة؟ ويصعب معرفة تلك الآلية والحركة للقوات الأجنبية، التي لم تعتد العمل في أجواء من هذا القبيل، إذ هناك فرق شاسع بين عمل أجهزة الاستخبارات بتقنيتها العالية في الولايات المتحدة والموظفة على رعاياها ومواطنيها، وبين ظروف وأجواء بلد تجهل قوات التحالف فيه خيوط العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين أفراده إذ في مفهوم وذهن الاستخبارات الأمريكية ربما المتعلمين والمثقفين والشباب وحدهم من يشاركون في المقاومة، ويغيب عن ذهنهم المرأة العراقية البسيطة، التي قد تمارس أعمالا أصعب بكثير مما تمارسه فتيات جامعيات، وإذا ما اعتقلت القوات الأمريكية أخيرا ثلاث نساء وأطلقت سراحهن، فإن هناك أمهات وشقيقات فلول صدام وغيرهن لا يمكن استبعادهن من التورط أو المساهمة، فزوجة الهارب مهما كانت وظيفته حتى وإن اهتزت قناعتها بما حدث من متغيرات، تبقى رهينة به حتى وإن كان ذلك تحت طائلة التهديد، فالجميع ما زال يخاف من اغتيالات فلول صدام إن لم يتعاون معها أو يتعاون مع قوات التحالف، بل وربما لا يقبل حتى بحياد الأشخاص وصمتهم في ظروف المواجهة والاحتلال، لهذا نرى أن سهولة الوصول في تنفيذ عمليات الاغتيال كانت بسيطة وستظل لشهور عدة قائمة، حتى تستطيع قوات التحالف بناء قوة أمنية وعسكرية عراقية جديدة تستوعب محيطها وتفهم خطابه وثقافته ولهجاته وطبيعة عاداته، ما جعل اغتيال شخصية بمستوى الخوئي، وممثل الأمم المتحدة دو ميلو، والسيد محمد باقر الحكيم، وعقيلة الهاشمي أحد أعضاء مجلس الحكم الانتقالي، وآخرين "كبار"، لم تصبهم القذائف أو الرصاص، وآخرون بمستويات مهنية مختلفة، عراقيون وأجانب، في محلات عامة أو خاصة، في أبنية سفارات أو طرق ضيقة وأحياء، شخصيات صغار الحجم في موقعهم المهني والسياسي أو متوسطي الحجم أو صيد ثمين من كبار الشخصيات، كلهم في هذه المرحلة، ودون استثناء معرضون للقنص والاصطياد والاغتيال بوسائل متعددة وتقنيات حديثة يوظفها الجميع، ومن أهمها الطريقة الانتحارية، فإن اغتيال وقتل الآخرين بصورة عشوائية ليس المهم، المهم اقتحام المكان المحدد وإيصال رسالة للشعب بأنه مستهدف أيضا، إذا ما تجرأ وقرر التعاون مع الأعداء والمحتل، وبذلك يتم عزل الشعب عن دائرة واسعة من قوات التحالف ولا يتسنى له محاصرة وعزل المقاومة من تربتها ومياهها العميقة، وفي الوقت ذاته تسعى قوات التحالف إلى ممارسة سياسة "إذا لم تستطع اصطياد الأسماك في الماء ينبغي تنشيف الماء" فهذا يجعل قتلها سهلا واصطيادها أسهل، كما تطارد قوات التحالف فلول صدام وجماعات القاعدة الإرهابية المقبلة من الخارج أو في الداخل في بيئة مجتمعية معقدة وأحياء تجهل أزقتها الصغيرة·
فالمسألة ليست في اقتحام البيوت والتفتيش فيها بحثا عن مجموعات أطلقت نيران أو قذائف صاروخية، إنما كيف تتمكن من معرفة خيوط تفصيلية في خطط الهجوم المباغت؟ أو منظمات أصولية تجد أن دورها التاريخي ينحصر في محاربة القوات الأمريكية أينما كانت، كخصم وعدو يمثل - حسب وجهة نظرها الصليبية الجديدة التي تهدد الإسلام والمسلمين في مقدساتهم وأراضيهم وحريتهم المهددة بالابتلاع من الحضارة الغربية المعادية·
بهذا الخطاب المضاد لقوات التحالف توزع المنظمات الأصولية والإرهابية بياناتها بين بسطاء الشعب، محاولة تضليله بفكرة أخلاقية وقيمية، بدلا من صياغة فكر سياسي واضح المعالم، فالوصول الى عاطفة الناس البسطاء أسهل بكثير من أسلوب الإقناع القائم على الحوار العقلاني، في مثل هذا النسيج الاجتماعي والتجمعات يسهل تجنيد أفراد من الشعب لعمليات الاغتيال، فهي تارة باسم الدفاع عن الشعب والوطن وتارة أخرى باسم الدفاع عن العرض والشرف والدين، غير أن الجديد هو أن الموت بات شهادة وطريقا للجنة، ألا ينعش مثل ذلك النهج عطش شاب غيور ومحبط أحيانا، فكرة البحث عن سعادة في الآخرة، طالما أنه افتقدها في الدنيا، دنيا كريهة تفسدها نانسي عجرم، وبشعار مبجل على نمط، لتحيا قوة العدل الأزلية العظمى للإنسان، لقد كان ذات يوم مشروع الاغتيال السياسي وسيلة تكتيكية يخدم أهدافا استراتيجية، لكنه في ظروف، "الهيلمان" الوطني، الحالي تحول الى بازار يوم الجمعة في سوق المقاصيص، ويصبح للذين لديهم عدوات خاصة، وتحديدا في مجتمع يتمتع بذهنية عشائرية وثأرية النزعة، فرصة لتصفية حسابات تحت حجة التخلص من عميل ومتعاون مع الأعداء·
ü كاتب بحريني |