استبيح الإخوة في الكويت عند استعارة اسم برنامجهم الكوميدي والمرح "صادوه" عنوانا مثيرا، فكل هارب نهايته أن يقع كفريسة ضعيفة في شباك مطارديه· للطريدة نهاية عند الصياد، وهذه المرة القناص أكثر من ماهر وقادر على انتشال فريسته من مخبأ "حقير" قبو يليق بشخص أصيب بالإفلاس، وكر لا يليق بزعيم عاش ونام داخل القصور والحرير وملايين الدولارات المسروقة، وحول ووزع ثروة شعب كامل على عائلته وبطانته وأزلامه، كما وزعها على كل الأبواق الرخيصة في شتى أنحاء العالم، المهم أن يصفقوا للبطل الضرورة، والزعيم الملهم، الذي لم يمتلك حتى شجاعة بسيطة لكي ينتحر، فقد نسي تراث العرب القديم القائل "بيدي لا بيد عمر"·
ربما السؤال الدائم والمتكرر في الشارع العربي والعراقي والعالمي: لماذا لم ينتحر الرئيس واستسلم مثل الأرنب المذعور المنهك؟ ويقال إنه كان في حالة إحباط شديد يبلغ درجة الانهيار التام لدرجة أنه لا يمكنه رفع مسدسه الذي عودنا عليه في كل مسرحياته ومشاهده وهو يتبوأ سدة السلطة كرجل دكتاتور طاغية· سؤال ربما نحتاج الإجابة عنه، ووحدهم علماء النفس جديرون بمنحنا الجواب عن سؤالنا المهم؟ متى يلجأ الإنسان إلى الانتحار؟ وفي حالة نماذج كهتلر وثقافة اليابان المستمدة من ثقافة البوشيدو الساموراي وطبيعة الثقافة الانتحارية التراثية لدى بعض الشعوب، التي نجد رجالاتها يلجؤون فيها إلى الانتحار لحظة هزيمتهم، تعبيرا عن رفضهم للمهانة والانكسار والتسليم بصورة مخزية· هل كان صدام رجلا جبانا يلتحف ويلبس رداء القوة المدججة بالأمن والسطوة؟ رجلا فاقدا للكبرياء الحقيقي لحظة المواجهة؟ رجلا ضعيف الإرادة يغطي ضعفه بالوهم والادعاء والتقنع والمسدس، الذي تعود حمله وهو مراهق سياسيا وضعف عن استخدامه؟ رجلا مزيفا صنعه التاريخ مصادفة! أسئلة تعبر عن نفسها بأن ليس التاريخ دوما يتجه في منحى طبيعي· لهذا يصعد إلى قمة السلطة شخصيات لا تستحق الإعجاب والتقدير· من كان لديه وهم بأن الطاغية "بطل" وطني يواجه المحتل، عليه إعادة قراءة قناعته أمام منطق التاريخ والحقيقة· وأمامنا ملف قادم من تراجيدية محاكمة تاريخية نهايتها حتما ستكون الإعدام، ولكن مسارها سيتحول إلى مادة خصبة للدعاية والإعلان السياسي والانتخابي، ومادة خصبة للسينما والأدب لن تفوت هوليوود ومنتجيها فكرة استثمارها· المحاكمة مادة مهمة لمحاكمة النموذج والفكرة لمرحلة الطغيان، وتأكيدا على ألا تتكرر مأساة الشعوب، ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية تمت محاكمة رموز مجرمي الحرب، لتستكمل مرحلة العولمة محاكمة نماذج ما أفرزتهم مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وانتهاء عصر وابتداء عصر جديد، لا يهمنا من يصوغ التاريخ بطريقته، المهم هنا أن المحاكمة ستكون درسا موجها في اتجاه أن الإنسانية والقوى الكبرى ترغب في تقديم نموذج شرق أوسطي، بعد أن قدمت نموذجا بلقانيا كما هو سلوبودان ميلوسوفيتش الرئيس اليوغسلافي السابق، لأنهما يمثلان نموذجا من حقبة المرحلة الشمولية، ولم تكن محاكمة لوكيربي إلا جرسا صغيرا· المهم حاليا وبعد سقوط صدام الشخص تنزاح غمامة الوهم التي تعشعش في عقول أنصار الطاغية ومؤيديه تحت حجة أنها معادية لقوات الاحتلال وتكره الولايات المتحدة الأمريكية، والغريب أنهم لا يرغبون بصراحة الكشف عن عاطفتهم المجروحة، وهي الحقيقة المختفية، بحجة كراهية المحتل· وطنية وثورية مزيفة فاقت حدودها، تحت وهج الشعارات الكاذبة· الطاغية كان دوما لعبة دولية، وفي كل المراحل، سواء بوعي أو من دون وعي، فقد تم توظيف نظامه وتحريك نوازعه وتطلعاته، وتغذية غروره ونهجه في ممارسة العدوانية والمغامرة· وإذا لم يكن بالضرورة أن يصبح زعيم دولة موظفا صغيرا أو عميلا لدول كبرى، فإنه في أغلب الأوقات دمية لا تشعر بحقيقتها، فارتداء القناع والغطرسة تخلق شخصية وهمية مريضة بتضخم الذات، يعرف الآخر كيف يوظفها في لحظة الصراع الدولي· من حافظوا على خطابهم وعنادهم المكبوت، عليهم أن يقرؤوا الشارع السياسي في كل مكان قبل أن يكلفوا أنفسهم قراءة التاريخ، فاللغة الحسية للمشاعر تعبير حقيقي عن زوال كابوس الطاغية، الذي نشر الرعب، إلى درجة بات فيها العراقي يطالب - للتأكد - بأن يخرج صدام بنفسه على التلفاز، لكي يقول للعالم: "ليست الأخبار كاذبة، أنا المدعو صدام حسين التكريتي، رجل صعد خفية في التاريخ في ليل مظلم، وكان لابد وأن يمضي بطريقة تليق بتاريخ رجل فقد الشرف والمصداقية"·
ربما يكابر صدام ولا يعتذر من الشعب العراقي أثناء المحاكمة أو قبلها، ففي ثقافة الحماقة لا يقبل الطرفان الاعتذار، فذاكرة المقابر لا تعرف إلا اللعنة· من يعيشوا ذاكرة زمن الخوف ينتظروا تلمس الحقيقة عن طريق نفض ذاكرتهم المتكلسة بموت الدكتاتور وانتشار رائحة جثته· أجمل الروايات اللاتينية تشير إلى سقوط الدكتاتور وهو في شيخوخته وخريفه وهو ينتظر الموت، حيث تخرج الحشود ترقص فرحا· الدكتاتور مات سياسيا منذ أبريل مع سقوط التمثال، ويموت الآن وهو ينتظر الخوف المكبوت كنهاية المشهد مع سقوطه في شهر عيد الميلاد· أجمل العبارات قالها الجنود فيما بينهم عندما أسروا صدام، وكانت بالنسبة لهم عيدا مميزا بعيدا عن الوطن "هبي كريسماس" (عيد ميلاد سعيد) هل يحتاج الرئيس بوش إلى رحلة طويلة بالطائرة إلى بغداد لكي ينعش ذاكرة الشعب الأمريكي مجددا بانتخابات عراقية قادمة وانتخابية أمريكية ساخنة ، منحته بسقوط الدكتاتور رصيدا وأسهما عالية· أخيرا وقع الرئيس·· سقط الرئيس، وهانحن بحاجة للاستماع إلى صادوه، لكي يتكامل البرنامج الكويتي مع المسلسل العراقي، فهناك محنة إنسانية عميقة عاشها الشعبان وعرفا رعبها اليومي، رعب لا يعرفه صراخ الأفاقين في الفضائيات العربية!
ü كاتب من البحرين |