تتردد في هذه الفترة أهمية تطوير المناهج التعليمية في العالم العربي والإسلامي، وكأنما كنا في سبات عميق، حتى بتنا في لحظة ما نعيش اكتشاف الخطيئة الكبرى، كما هي حالة كيف ينام الذئب في فراش الحمل الوديع، ما نسمعه اليوم من مفردات كثيرة تقول بأن المناهج الدينية وديننا الحنيف ينبغي أن ينهج الوسطية والاعتدال، فإن ذاك التعبير ضمنيا يؤكد أننا في السابق كنا الى حد ما ننهج التطرف والتزمت في مناهجنا، خاصة في تلك الدروس الدينية، التي كرست قيم الكراهية والحقد والانغلاق تجاه حضارة الآخرين وأديانهم، ولم يكن الاختلاف والتباين هو الموضوع السائد في المناهج، وإنما تعليم النشأة قيم الاستعلاء والتفوق، وكأننا نسعى الى تمجيد الذات والهوية بصورة قسرية وخاطئة، أو على أقل تقدير أننا كنا بحاجة نتيجة الخوف لمنع هويتنا من الاختراق، وكأننا لا نثق بصلابتها وسلامتها لدى أجيال كاملة حافظت على دينها وهويتها منذ فجر الإسلام، دون الحاجة للسيف البتار ولا الدعاوى الفاضحة، التي تنضج بروح التشدد والمغالاة، الى حد وجد فينا الآخر عدوا ننوي تدميره وإلغاء وجوده وحقيقته وحقوقه، في ظروف العولمة وما بعد أحداث سبتمبر نضجت الظروف الدولية للمواجهة بين حضارتين، بدت خالية أكثر للتناطح بعد زوال الاتحاد السوفييتي، ففي الحقبة السابقة تحالف الإسلام مع الغرب المسيحي ضد الشيوعية، مثلما تحالف الغرب المسيحي مع الشيوعية الغربية "بالمعنى الحضاري" ضد الفاشية، التي كانت يومها الخطر الأكبر ضد الحضارة والإنسانية، وكانت الفاشية القوة المدمرة لكل ما أنجزته الإنسانية من ثقافة وتقدم، وتحول المسرح السياسي العالمي الى ساحة معركة جديدة مع تفسخ وانفصال ذلك التحالف المقدس، فكانت الأصولية، التي تمثلت في نموذج بن لادن وغيره من التنظيمات الإسلامية المتشددة الحلقة الأهم في الصراع الدولي بين قوة الولايات المتحدة الأمريكية والغرب كله، باعتبارها تشكل النظام العالمي الجديد، إزاء قوة لا تمثل إمبراطورية عسكرية ولا قوة اقتصادية ولا منطقة جغرافية، وإنما ثقافة وحضارة تستمد منها الأصولية الصاعدة والمنتشرة نظريتها ومنطقها وتوجهاتها، وساهم في كونها تنتمي لثقافة أوسع وأشمل وأيديولوجية أعمق هو الإسلام، مما جعلها تروج في العالم الإسلامي بأنها الممثل الشرعي للمسلمين، بعد أن وجدت في الأنظمة والدول الإسلامية نموذجاً للفساد والتراجع والسقوط تحت هيمنة الغرب والولايات المتحدة الأمريكية تحديدا، ودون شك، كان هذا التيار على علم كامل بطبيعة الأنظمة، وبطبيعة العلاقة بينه وبين الأنظمة من جهة، وبطبيعة العلاقة بين الأنظمة وقوى الغرب في حقبة الحرب الباردة وما بعدها من جهة أخرى، ومثلما استخدم الطرفان بعضهما البعض في معارك مشتركة إزاء خصم ثالث، أصبح بعدها التناقض مكشوفا بين من يمثلون قيم الغرب الرأسمالي وقيم العالم الإسلامي، حتى وإن كانت الشعوب الإسلامية والأنظمة الإسلامية ليست متجانسة ومتوافقة من نواح عدة، وبدا التيار الأصولي منتعشا خلال العقد الأخير من القرن المنصرم، بالرغم من إدراك الغرب للحالة الداخلية والكامنة لفكر ذلك التيار ومشروعه الحضاري كبديل جديد مواجه للعولمة، والطامة الكبرى للأصولية المتطرفة هو أنها خلطت بين حضارة الغرب الحداثية، والتغريب المطلق لثقافة خارجية غازية تهدد الهوية في تكوينها وصمامات الأمان الأساسية فيها، خاصة وأن التعليم أحد مفاتيح التغيير الاستراتيجي لصقل عقل الإنسان وثقافته، إذ لا يمكن للهوية المضطربة والثنائية المتضادة أن تحل عقدة التناقض، بين الحداثة والتخلف بروح الانتقائية، عن طريق تركيبة وتوليفة متناقضة بين منهج العقلانية والفكر الجدلي وعقلية ميتافيزيقية، تحاول تذليل الحقائق بمنطق مبتسر يراوغ ويخشى الحوار المفتوح حول الأسئلة الكبرى، حتى في مناهج التعليم الأساسية، فعلى سبيل المثال لا يمكن أن نعلم الجيل الحديث، كما تعلم بعض الإخوة في دول عربية خليجية درسا في الرياضيات عن الخط المستقيم (إنهما خطان متوازيان لا يلتقيان إلا بإذن الله) وبذلك يتم إرباك الطالب من جهة ويتم تشويه الدين وتبسيطه بتلك العقلية، لهذا لا يجوز أن تدرس المناهج الدينية والعلمية في المدارس إلا بعناية واختيار ممنهج مدروس، فلا أحد يرغب الحشو والتلقين في التعليم، مثلما لا ينبغي أن تجتث الدروس الدينية من المدارس كمنبع وغذاء روحي للإنسان، كل هذه الحقائق باتت تحت المجهر الثقافي العالمي، وباتت الأسئلة الكبرى تثار، هل الأديان مادة تعليمية لخلق الكراهية والتحجر والصنمية أم أنها مادة ضرورية من أجل بناء الإنسان بروح المودة والإيمان والتسامح والانفتاح الثقافي والحوار العقلاني الخلاق في عصر يموج بالتفاعل الثقافي وحوار الحضارات المكشوف نتيجة تحول العالم الى قرية صغيرة؟!
ونتحدث هنا في موضوعنا عن حقيقة وواقع مستويات معينة من الصدام الثقافي والحضاري بين مشروعين عالميين، إذ ما عادت المواجهة العسكرية وحدها تشكل فيه المخرج النهائي ولا الورقة القوية، ولكنه يتجسد في الميدان الحقيقي للمواجهة مع فكر الإرهاب ومشروعه الظلامي، وقد تحول الى مجال مختلف، من أهمه المجال الثقافي والتعليمي والإعلامي، بعد أن تنتهي عملية تجفيف منابعه العسكرية والتنظيمية والمالية، وتفتح جبهة حقيقية في معركة التعليم والفكر والثقافة، حيث هناك تبدأ المعركة الحقيقية بين قوتين تنظران لبعضهما البعض نظرة عداء، خاصة وأن الفكر الظلامي والأصولية والعصبيات المعادية للحضارة العالمية تنظر للمشروع الإنساني التحديثي نظرة نفور واستعداء، وتضعه في خانة الرفض المطلق تحت حجج أن الآخر، الإمبريالي هو نفسه الحضارة الغربية المنحلة أو المسيحية الصليبية، والتي تحاول تعميم ثقافتها ونهجها العالمي على ثقافات الشعوب وهويتها، وبذلك تختزل كل الثقافات الإنسانية والحضارة العالمية في محورين هما صليبية مسيحية متعصبة في مواجهة أصولية إسلامية متطرفة أو إرهابية وعنيفة!! مما يجعل المجتمع الدولي والإنساني تحت سقف الضباب والمبالغة والتضخيم والهوس والرهاب العالمي·
ü كاتب بحريني |