ليس من المبالغة إذا قلت أن معظم محددات النسيج الاجتماعي في مجتمعنا تجره إلى حالة من التشظي والانقسام تحت ذرائع ومبررات عرقية وطائفية وقبلية وعائلية فيما لو وضعنا هذا النسيج في إطار الهجرات البشرية المتصاعدة التي وصلت إلى أوجها مع اكتشاف النفط وتغير الوضع الاقتصادي·
ويبدو أن حالة الانجرار هذه تضم إلى جانب تلك الذرائع أبعادًا طبقية مافتئت تبث جذورها بمحتوى هذا النسيج بعد أن ثبت أن هذه الأبعاد لاتتمحور حول عموميات مجردة وإنما - وهنا تكمن الخطورة - اتخذت أُطُرًا سياسية مؤسسية تعبر عنها وتكرسها ولها إنعكاس بشكل مباشر في التعاطي اليومي مع القضايا الراهنة فضلا عن أنها تحولت إلى سبب من أسباب التسخين الداخلي·
ومايبعث على التخوف أيضا في ظل هذا الواقع أن تتحول حالة الفعل هذه إلى صدام بين المكونات الاجتماعية سواء على صعيــد البنى الأفقيـة أو الرأسيـة وربما تتحول إلى نهايــة مأساوية لصيغــــة "التوافق" التي خضــعت لها أطيـــاف المجتمـــع لفتـرة طويلة·
وفي هذا السياق سنكون أكثر قدرة على فهم أسباب الانزعاج الذي بدأ يلوح في الأفق هذه الأيام فيما يتعلق باللغط حول مضمون العملية السياسية السائدة، ولاسيما ضعف مؤسسات الدولة وعدم قدرتها على توفير الأسس الموضوعية لتدارك الأخطاء، بل وإرتهانها في بعض الجوانب لعقلية الاستحواذ من جانب طبقة تجاه أخرى·
ولو نظرنا إلى كل مراحل التطور التي مررنا بها خلال السنوات الماضية لأمكننا التعرف على أنماط من التدافع السياسي والتزاحم على الموارد والمكانة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين أفراد حيز من المجتمع مع تجاهل الأجزاء الأخرى حتى تقاطعت أنماط هذا الحيز رغم توفر الأسباب الموضوعية لتجانسه حتى بلغ الأمر حدا من الصراع يؤشر على خطورة الوضع في ظل غياب المرونــة المطلوبــة لاستيعـاب المتناقضـات داخل المجتمع·
منذ إقرار الدستور عام 1962 وبدء مشروع التحول نحو الديمقراطية وجدت السلطة نفسها في حاجة ملحة لإدخال قوى جديدة إلى ساحة المعترك الاجتماعي ثم السياسي فيما بعد وإن كانت تلك القوى غير واعية لما يدور حولها، وشكل الصراع مابرح يتخذ أشكالا وطبائع خطيرة تستدعي التوقف عند كل زاوية من زواياه، ونحن هنا لانلغي الواقع الذي يميز كل المجتمعات لكننا يمكن أن نطرح أفكارا تؤدي إلى التخفيف من حدة التفاوت الطبقي في المجتمع، وتعمل على توفير العدالة الاجتماعية لجميع أطياف الشعب مع الاسترشاد بالخيارات التنموية القادرة على توظيف تلك المتناقضات في مشروع واحد وتستفيد منه عملية التوازن·
ولو أمعنا النظر فإننا سنجد أن التغيير الإيجابي في هذا الجانب ليس أمرا مستعصيا على التنفيذ بل سنجد أنه مرتبط بعوامل وشروط موضوعية تبدأ برغبة حقيقية بين الأطراف التي يتكون منها المجتمع في الانتقال من حالة التشظي والتناثر إلى الوحدة، ومن المزاحمة إلى التعاضد ومن الانفصال إلى التواصل·
إن المرحلة الراهنة التي سلطنا الضوء على جانب منها ترتب أساسيات جدلية للعلاقة بين تلك المكونات المجتمعية ومدى إدعاء أي طبقة أن لها شرعية لاتمتلكها الأخرى وتكرس لها وضعا ما على حساب بقية الطبقات لايمكن له أن يستمر في خضم أوضاع تمهد إلى "حتمية" التغيير، لذلك فإن علاقات التفاعل بين الطبقات والشرائح لابد أن تتكئ على صيغة مرضية لكل الأطراف لأن استمرار حالة عدم الاستقرار الاجتماعي وإذا كانت جهة ما تسير بهذا الاتجاه عن قصد أو غير قصد فإن مسؤولية الأطراف الأخرى أن تبرز لتصحيح مسار الطريق وضبطه باتجاه القنوات التي تخدم مشروع التنافس الإيجابي·
ولابد من التذكير أن أي إخفاقات مستقبلية على صعيد هذا الوضع ستكون إنعكاساً لعدم قدرة "النخب" على خلق الظروف الموضوعية والملائمة لإنقاذ المجتمع ونظامه السياسي القائم·
وبالطبع فإن كل هذه المعطيات ترتب على قوى التجديد الاجتماعية أن تضع في اعتبارها أهمية التركيز على إيجاد تصور مستقبلي لكيفية الخروج من هذه العزلة السائدة بين مكونات المجتمع من خلال اختيار سياسة عملية تدفع تجاه تدشين مشروع ديمقراطي يضع في اعتباره كل هذه المتناقضات، ولا شكّ أن هذه المجاميع مدعوة إلى الاعتماد على نفسها أولاً بدلا من المراهنة على تحرك السلطة، ولن يتأتى لها ذلك دون الالتفاف حول مشروع للإصلاح الوطني·
إذن إعادة إنتاج العلاقة التي تربط بين أطياف المجتمع على أساس من الانفراج ودون الحاجة لتغيير البنى القائمة ستحقق الهدف لأن غير ذلك كما يقول إنجلز فإن الصراع الطبقي قد يقود إلى انتصار أحد الطرفين المتصارعين أو هلاك المجتمع بأسره، وكما يقول ابن خلدون "فإن المجتمعات تصاب بالشيخوخة وتموت إذا لم تجدد نفسها"·
نحن نريد لمجتمعنا أن يتطور وأن يبحث عن الصيغة التي تنقذه من نذر الهلاك، التي يبدو أنها بدأت تتجمع في أكثر من مكان بعد أن اصطدمت ببنى المجتمع غير المرنة، فهل نحن قادرون على ذلك؟ خاصة وأن المجتمعات لاتطرح على نفسها إلاّ المهمات القادرة على إنجازها· |