مازلنا والعالم نتابع بذهول جرائم إسرائيل المنكرة على أرض لبنان وفلسطين، فإسرائيل تواصل مجازرها وعربدتها بما جبلت عليه من استهانة لا نظير لها بردود الفعل العالمية الرسمية والشعبية؛ مدعومة بمباركة أمريكية، ومحمية بفيتو أمريكي يعطيها أنى شاءت الضوء الأخضر لتواصل جرائمها على مرأى من العالم ومسمع، فهي لا تأبه بما قد يعبر عنه الآخرون من رفض أو استنكار لكل ما تأتيه من أفعال منكرة وجرائم تهدر الروح والكرامة والإنسانية هدرا، وتحرق البراءة بنيران الحقد والظلم اللذين لا حدود لهما ولا نهاية·
إن هذا القتل وهذه المجازر التي لا ترحم الصغير ولا الكبير ولا النساء ولا الضعفاء، وهذا الضرب الفتاك الذي يفتك بالبنية التحتية للبنان الجميل لا يمكن أن يعدّ دفاعا عن النفس، ولا يمكن للعاقل من الناس أن يقتنع بأنه كذلك، إنه دفاع عن الحقد الدفين الذي تغذيه الصهيونية العمياء السوداء التي نشأت على تزوير الحقائق والتاريخ، وعلى الباطل والخيانة والغدر، وعلى الكراهية التي لا سبيل إلى انتزاعها ولا إلى إرضائها بأي وسيلة أو طريقة· فكل الوسائل قد فشلت في أن ترد كيد الصهاينة وحقدهم وجنونهم المسعور الذي يرى في أرض العرب، كل العرب، فضاء لعربدته وتسلطه·
ما زلنا نطالع الصحف ونتابع الأخبار وسط شعور عميق بالخذلان والخزي واليأس، وآلام تنكأ الجراح في الأفئدة، وتغوص في أعماق الروح التي تتطلع باحثة عن بريق أمل· ورغم أنّ إسرائيل المتبجحة بقوتها وجيوشها الجرارة وأسلحتها المتطورة باتت مذعورة تكشف عوارها وجبنها وهلعها في مقابل صواريخ المقاومة التي تسّاقط عليها من شمال وجنوب، وتعري للتاريخ حقيقتها التي عرّفنا إياها كتاب الله منذ أن تنزل على النبي الأمين، فإنّ هناك من يحاول أن يحجب عن الرؤية مثل هذه الحقيقة، ويحاول عبثا أن يئد حلم العروبة الصامد الباقي في نفوس الملايين ممن آمنوا به ونشؤوا على ترنيمته الخالدة·
الملايين من العرب والمسلمين يتطلعون بأمل ورجاء إلى موقف واضح موحد شجاع يحفظ ماء الوجه وكرامة الإنسان، الملايين ينتظرون بفارغ الصبر، وقد طال انتظارهم، جوابا يرد إليهم بعضا من عبق تاريخهم المجيد، ويجمع شملهم الذي مزقته الأهواء والمصالح الأنانية الضيقة فهل على هذه الملايين أن تنتظر طويلا طويلا، وربما إلى ما لا نهاية، وليس في الآفاق من ملبٍ ولا مجيب؟ فهل نصدق تحليلات من يقول إن للأنظمة العربية حساباتها الخاصة، فهي مشغولة بحماية نفسها ومصالحها، ولا تستطيع المجازفة بمغامرات غير متكافئة، تحاول جاهدة أن ترد المعادلة إلى صيغة تضعها في بر الأمان من جديد لكي تواصل تأدية الأمانة الملقاة على عاتقها في مناخ لا تعكر صفوه "المغامرات غير المسؤولة" ولا "الأحلام الوردية" التي لا تفقه الواقع، ولا تتفهم حقيقة التغيرات الكبرى التي عرفها التاريخ في هذه المنطقة· وإن المرء ليتساءل بيد من حدثت هذه التغيرات الكبرى؟ وبقرارات من سجلها التاريخ لتحفظ في ذاكرة الأمة إلى الأبد؟
يقبع التاريخ اليوم في إحدى زواياه يتأمل الأحداث ويرفع قلمه يسطر في دفاتره مواقف العرب والمسلمين من تسلط الآخر وتجبره وتعنته والإذلال الذي يمارسه في حقهم، والهدر الكبير الكبير الذي يلقونه لإنسانيتهم وكرامتهم وحقوقهم· يرفع التاريخ قلمه ليسجل على مدى سنوات طوال عجاف كلمتين: "لا موقف" " لا موقف"· وإن التاريخ ليعجب وهو يسطر هاتين الكلمتين، في صفحات متتالية من الهزائم والتراجع والخزي والخذلان· وإن التاريخ ليتساءل: أحقا أن هؤلاء هم من كنت في زمن قديم أسجل في حقهم أروع المواقف وأشجعها وأكرمها؟ أهؤلاء هم أحفاد الرشيد الذي حين كتب إليه نقفور ملك الروم رافضا دفع الجزية مهددا متوعدا رد عليه بعبارته الشهيرة: " من هارون الرشيد خليفة المسلمين إلى نقفور كلب الروم: فالجواب ما ترى لا ما تسمع"؟ فكان جوابه جيشا تظلله العزة والكرامة والشجاعة والقوة واليقين الذي لا يراوده شك أنْ لا جواب يحفظ الحق إلا الفعل الشجاع الشريف الذي لا يرى الحق إلا حق الأمة، ولا يعرف المصلحة إلا مصلحة الجماعة الواحدة التي تجتمع على الحق المبين· فلتعذرنا أيها التاريخ ولتمض تسجل في أوراقك ردّ العرب على أعدائهم، ردا لا يُرى، ولا يسمع، ولا يعبأ به·
وإننا، رغم، ذلك لا نطمح أن تتحرك الجيوش العربية لترد الظلم والاعتداء عن لبنان أو فلسطين أو أي بقعة في الأرض العربية المشاعة لبني صهيون ، فهذا الطموح، في هذا الزمن، أشبه ما يكون بالتهويمات والهلوسة التي لا سند لها من عقل أو منطق أو واقع· ولكننا، مع ذلك، كنا نتمنى، ونأمل ألا نسمع من بعضهم تعليقات تكشف ما تبقى من عوار في بنية هذه الأمة المنكوبة في نفسها وأرضها وحقوقها·
فإن كان الحال لا يسمح بأن نقف الوقفة التي نريد، ولا يمنحنا فرصة الفرح بالرد على الظالم المعتدي ردا سياسيا موحدا، ولا يقف معنا، بعد كل التراجعات والتنازلات التي سجلناها على أنفسنا لاتخاذ قرار اقتصادي أو تسجيل استنكار واضح صريح يرفض الاعتداء ولا يسوغه بأي حال من الأحوال، وتحت كل الظروف الصعبة القاتمة· إن كان الحال يضيق علينا الخيارات إلى الدرجة التي نرى فيها الأفق مطبقا على كل بارقة أمل في النفوس، فإنه لا يبرر أن نسمع - نحن الذين لم يبق لنا إلا الرجاء - ما يقضي على ما تبقى في قلوبنا من بقايا أمل نقتات عليه بقية أعمارنا التي مضت ونحن في حالة انتظار، والتي قد تمضي ونحن ننتظر· دعوا لنا حقنا في الأمل، بعدما سلبت منا كل الحقوق· وكأني بصوت المتنبي الشاعر الفذ يتردد في آفاق البلاد المقهورة يقول :
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليحسن النطق إن لم يحسن الحال·
جامعة الإمارات |