أصبحت حياتنا تمتلئ بالواجبات والأعمال التي قد توقع الإنسان حتى وطأة الإحساس بعدم السيطرة، وتشعره، أحيانا، بالعجز، فلا يجد سبيلا إلى قضاء أعماله، وإنجاز ما عليه من مهمات إلا أن ينجزها كيفما اتفق· فلا شك أنّ حياتنا المعاصرة بإيقاعها السريع ومتطلباتها الكثيرة التي تتجاوز إنجاز الأعمال اليومية إلى تحقيق مهارات أساسية أخرى كمهارات الاتصال، والنجاح في بناء علاقات مع الآخرين من رؤساء وزملاء وعملاء، والعمل على تطوير الذات، واكتساب مهارات جديدة، والتنافس في تقديم أفكار مفيدة- لا شك أنّ هذا النمط من الحياة يجعل الإنسان يشعر بأنه في سباق مع كل شيء، فيصاب بالإرهاق، ويستسلم للرغبة في إنهاء ما عليه من واجبات من دون أن يدقق في مستوى أدائه، والكيفية التي أنجز فيها أعماله· فتغدو الأعمال أرقاما تكدس بعضها فوق بعض من غير أن تتمايز في القيمة أو الشكل أو المضمون· إنها أعمال يجمعها جامع واحد أنها "أعمال منجَزة"، أما كيف أنجزت، وما مدى الإتقان الذي تعكسه، فهذه مسائل قد يغض كثيرون الطرف عنها ويتساهلون فيها، ولسان حالهم يقول "يكفي أنّ العمل قد أنجز"·
وعلى الرغم من أن التفاوت بين المجتمعات في التقدم والسبق والتمكن من امتلاك عناصر القوة المختلفة كبير جدا، إلا أنّ كل المجتمعات لا تخلو من وجود عناصر جيدة متميزة من أولئك الناس الذين يعطون أعمالهم ما تستحق من عناية واهتمام وتدقيق، وقد يقضون شطرا من عمرهم عاكفين على إنجاز مشروعهم الشخصي، أو ساهرين على أداء ما يكلفون به من مهمات، يؤدون عملهم بصمت وصبر وإتقان وحب وتفان - ولكن المتأمل في واقع المجتمعات يستطيع بمقاييس بسيطة أن يتعرف إلى طبيعة الأفراد فيها، ومستوى الأداء الذي يصلون إليه· يكفي أن يقارن المرء بين وضع أي مؤسسة الآن وقبل عشر سنين، وأن يتأمل منجزاتها المادية والعملية التي يمكن قياسها، والتي لا تقع في دائرة العموميات والمبهمات والمتشابهات·
ولا شك أنّ المجتمعات التي تنشد التقدم، وتتطلع إلى التميز تعمل جاهدة على أن يكون الإتقان في العمل سمة لازمة من سمات أفرادها، فهي تنشئ الأفراد على أن يقدروا قيمة الإتقان، وأن يجعلوه مطلبا أساسيا من مطالبهم الشخصية، وأن يتدربوا في مراحل حياتهم المختلفة على مزاولة أنشطتهم بروح من الشغف والحب والتقدير، فلا يخرج من بين أيديهم شيء إلا بعد أن يكون قد طبع بطابعهم الشخصي، وأخذ من روحهم ما يجعله فريدا مختلفا، واقتبس من فكرهم وأسلوبهم قبسات تصهره في أتون إخلاصهم وإتقانهم·
فلا يكفي أن نعتمد ثقافة الإنجاز، وأن ندفع الناس دفعا إلى أن يكون الإنجاز في حد ذاته غاية، أو أن نجعل التسابق المحموم بينهم نحو التميز سببا في أن يتجهوا نحو التزييف، أو أن يستسهلوا الاستعانة بالآخرين لإنجاز أعمالهم، حتى لو استدعى الأمر أن يكون واجبنا في ذلك هو دفع المقابل المادي للحصول على العمل منجزا في صورة لائقة: إنّ التطلع نحو الأفضل، والنظر إلى الأعلى، والجري وراء الأحسن، والتوجه نحو الأول يجب ألا يوقعنا في التباس خطير يجعلنا نرغب بشدة أن نكون من المتميزين المتقنين من دون أن نحقق أدنى متطلبات هذا التميز في أنفسنا وتصوراتنا وأعمالنا·
يحتاج مجتمعنا الناهض إلى أن نضع له خططا يكون من أهدافها تربية النشء على حب العمل، والإقبال عليه إقبال من يقدسه ويراه مصدرا من مصادر السعادة والرضا، يحتاج أبناؤنا إلى أن يتدربوا على الصبر في أداء أعمالهم، وعلى الإتقان في كل ما يقومون به من واجبات، وإلى أن يتحملوا بأنفسهم مسؤولية أداء مهماتهم اليومية، وحتى وإن كان ذلك صعبا أو ثقيلا أو يحتاج إلى جهد كبير· وإن كان أبناؤنا في أمس الحاجة إلى مثل هذه المبادئ، فنحن إليها أحوج، فإنهم يستقون الحياة من ينابيعنا، فإن كان الماء صافيا زلالا نشأ النبع الصغير عذبا فراتا، وإن كان كدرا آسنا نشأ ملحا أجاجا·
قد يصادف المرء في حياته اليومية الكثير من النماذج التي تجعله يحزن ويأسف، ويتساءل: كيف وصلت هذه النماذج إلى ما وصلت إليه؟ كيف يقبل هؤلاء بأن يكونوا ممن يدفعون في مقابل أن يؤدى عملهم؟ أو أن يؤدوه بأنفسهم من غير اعتناء واهتمام، ومن دون أدنى درجات الإحساس بأن هذا العمل هو صورة عنهم، وترجمة لشخصياتهم؟ وكيف وصل بنا الحال إلى أن نرى هذه النماذج في كل مكان؟ وكيف أن الأمر أضحى قريبا من الداء الجمعي أو المرض المجتمعي الذي قد تكون مغالبته صعبة جدا، فكيف بمحاربته والقضاء عليه؟ وهل هناك ما يشبه التواطؤ الصامت بين الناس لغض الطرف عن مثل هذه الأمور، وجعل المسائل تسير من دون إزعاج أو منغصات؟ أو هل الجميع ينهج هذا النهج فلا يجرؤ أحد على الرفض لأنه سيكون كمن يفضح نفسه؟ وألسنا نقع في تناقض فاضح حين نربي الأبرياء الصغار على "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" ونريهم من أنفسنا ما يناقض ذلك أشد التناقض وأجلاه؟
المجتمع الناهض يحتاج أشد ما يحتاج إلى تعميق مفهوم المراقبة الذاتية على النفس، وإلى تفعيل مبدأ التدقيق في الإنجاز، وإلى التوجه نحو الصدق في أداء الأمانات (والعمل أمانة)، وإلى التنشئة على الحرص على الإتقان في كل ما يأتيه المرء من أعمال، وإلى إيجاد آليات يسهل تطبيقها لتمييز الخبيث من الطيب، بعيدا عن المجاملات والنفاق الذي قد يغرق المجتمع كله في بحر من الأوهام والأكاذيب، والوهم مهما طال عمره فإنه قصير·
أختم حديثي بهذه القصة التي تلخص الفكرة: يحكى أنّ مجاعة وقعت في إحدى القرى، فاجتمع الوالي بأهل القرية، وأخبرهم بأنه سيضع قدرا كبيرة في وسط القرية، وعلى كل رجل أو امرأة أن يحضر كوبا من اللبن ويسكبه في القدر، واشترط الوالي أن يكون ذلك ليلا، وأن يضع كل شخص كوبه بنفسه، وأن يأتي وحده في الظلام· هرع الناس لتلبية طلب الوالي، فتخفى كل منهم في الليل،وسكب ما في كوبه في القدر· وفي الصباح فتح الوالي القدر، فذهل مما رأى· أين اللبن؟ كانت القدر مملوءة بالماء·· لماذا أحضر الناس الماء بدلا من اللبن؟ لقد قال كل منهم في نفسه "إن كوبا واحدا من الماء لن يؤثر على كمية اللبن الكبيرة التي سيضعها باقي الناس" في النهاية قضت المجاعة على القرية، فمات معظم الناس· ترى ماذا تسكب في القدر الكبيرة: كوبا من اللبن أم كوبا من الماء؟
*جامعة الإمارات |