رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 21 مارس 2007
العدد 1766

فراشة مبتسمة تطير من شدة الفرح
د. لطيفة النجار
Latifa64@emirates.net.ae

كنت قبل أيام في إحدى مؤسسات التعليم في الدولة، وبعد أن أنهيت ما جئت من أجله، جلست في مكان مخصص للانتظار، أنتظر زميلتي التي جاءت معي لإنهاء بعض المعاملات، كنت أتأمل المكان، فقد غدا مختلفا جدا عما كان عليه في السابق، كانت ردهة الانتظار واسعة، نظيفة، مرتبة، وكان المكان، على خلاف الماضي، لا يخلو من فخامة، ولمسات اعتناء واضحة·· جالت في ذهني الخواطر وأنا أتأمل المكان·· "كم يؤثر المكان في الإنسان!"·· مرّ من أمامي رجل عربي في أوائل الخمسين من عمره، كان يسير مترددا، يحمل في يديه أوراقا، يمشي ويقف، ينظر هنا وهناك، ثم يعود يمشي خطوتين أو ثلاثة ويقف· وفي أثناء ذلك أقبلت فتاة يبدو من عباءتها وغطاء رأسها أنها مواطنة، كانت تسير بنشاط، وتضع على وجهها ابتسامة، تقابل بها كل من تراه، وقفت الفتاة تتحدث مع أحد الموظفين في الممر، كانت تتحدث معه باللغة الإنجليزية بطلاقة، ويبدو واضحا أنها كانت سعيدة بذلك، وقد تكون ابتسامتها تلك بسبب هذه السعادة التي جعلتني أظن أنها قد تطير من أمامي في أي لحظة·

كان الرجل العربي يقف غير بعيد منهما، يتحين الفرصة لسؤالها، وما إن غاب الموظف عن ناظرينا، وعادت الفتاة توزع ابتساماتها هنا وهناك، حتى أقبل عليها يسألها، لم أسمع ما كان يقول، لكني سمعت ردّها بوضوح، فقد كانت كأنها تحاول أن تسمع كل من في الردهة صوتها، على الرغم من أنّ المكان كان خاليا، ليس فيه إلا ذلك الرجل، وأنا التي كنت أتأمل المشهد، قالت له بوضوح بالإنجليزية: "ألا تعرف الإنجليزية، تحدث الإنجليزية من فضلك" فنظر إليها الرجل من وراء زجاج نظارته السميك، وعلى وجهه ارتباك واضح: "لكن·· ألست مواطنة؟" فردت بالإنجليزية: "إذا أردت أن تتحدث العربية، فاذهب هناك ستجد من يساعدك" وأشارت إلى إحدى الزوايا محتفظة بابتسامتها التي خيّل إليّ أنها زادت اتساعا·

أخرج الرجل منديلا من جيب بنطلونه، ومسح بها وجهه، وبقي ساكنا للحظات، ينظر إلى الزاوية التي أشارت إليها الفتاة، فما كان منّي إلا أن سألت: "ألا تتحدثين العربية؟" فأدارت وجهها إلي محتفظة بابتسامتها، وقالت بالإنجليزية "أتحدث لكني لا أريد"· ومضت بخطواتها الرشيقة، تسير، وتلتفت يمينا ويسارا، توزع سعادتها الغامرة في أرجاء المكان· أما الرجل فمضى إلى الزاوية البعيدة التي تتحدث العربية· وأما أنا فجلست مع أفكاري وخواطري أنتظر زميلتي التي أقبلت بعد دقائق، فخرجنا من المكان، وأنا أسأل: "هل أخبر زميلتي عن الموقف؟" وجدتني ألازم الصمت، "ربما في وقت آخر"·

وفي يوم آخر ( الأحد 4/ مارس/ 2007) أقرأ في جريدة الإمارات اليوم على الصفحة الأولىة تحت

عنوان محليات "موظفة في جامعة زايد

تخشى نسيان لغتها العربية" وحين قلبت الصفحات لأقرأ وجدت إحدى موظفات جامعة زايد تشكو من إجبار أحد أقسام الإدارة في الجامعة الموظفين بأن يلتزموا الحديث بالإنجليزية، وأنها -الموظفة- وبعض زملائها، وبعض طلاب الجامعة يستنكرون ذلك، ولا يجدون له ما يسوّغه· تراءت أمامي حينها تلك الموظفة التي رأيتها، وهي سعيدة بنفسها فخورة بلغتها الإنجليزية، حين ردّت عليّ بقولها "أتحدث لكني لا أريد"··

تذكرت حينها حديثا دار بيني وبين إحدى الأمهات، كانت الأم تتحدث معي عن ابنتها الصغيرة التي تدرس في الصف الثاني·· كانت الفتاة تذاكر مادة العلوم، وتسأل أمها، ما معنىvolcano  بالعربي؟ فتجيبها الأم: بركان· فترد الفتاة الصغيرة: بركـــان· ما معنى: earthquake? فتقول الأم: زلزال· فترد الفتاة: زلــــزال· كانت الفتاة، كما تصفها أمها: حين تسمع الكلمة العربية، ترددها وتمطّ حروفها، وعيناها تتسعان، كمن فهم العلاقة بين الكلمة ومعناها، كأنها تكتشف الشيء المفقود في الألفاظ الإنجليزية· وكانت الأم تتساءل: لماذا لا يضعون المقابل العربي -على الأقل- للمصطلحات العلمية في الكتاب؟ وكنت أنا أردد السؤال وراءها: حقا، لماذا لا يضعون المقابل العربي- على الأقل- في الكتاب؟

منذ سنوات سألت ابنة أخي التي كانت جالسة بقربي تدرس مادة العلوم أيضا: ما تدرسين؟ فقالت: أجزاء الزهرة· فنظرت إلى الرسم التوضيحي في الكتاب، وإلى الأسماء بجانب كل جزء من أجزاء الزهرة· فسألتها: هل تعرفين ما اسم هذا الجزء بالعربية؟ فقالت: لا· قلت: اسمه تويج· هل تعرفين ما معنى تويج؟ قالت: لا· قلت: يعني تاج صغير· فنظرت إلى الرسم، ثم إليّ، وابتسامة الاكتشاف تعلو محياها، وقالت: صحيح·· إنه يشبه التاج!

وقبل أيام مضت كنت أنا وصديقتي نتابع حفل توزيع جوائز الأوسكار، كان كل فائز يقف أمام الميكرفون ليلقي كلمته التي لا تتجاوز دقائق معدودة، فلفت انتباهي فائزان، الأولى صينية، وقفت أمام هذا الحشد العظيم ممن يتحدثون الإنجليزية، وألقت كلمتها القصيرة بالصينية، والثاني مكسيكي، وقف يتحدث بلغته، وأحد الممثلين يقف بجانبه يترجم له ما يقول· سألت زميلتي حينها: لو كان الفائزعربيا، هل سيتحدث بالعربية؟

حين نتحدث في مسألة اللغة يظن كثيرون أننا نحمّل الموضوع فوق ما يحتمل، وأننا نميل إلى المبالغة، وتضخيم الموضوع، وربطه بأبعاد أخرى مهمة كالهويّة والتراث والتاريخ، مع أنّ المسألة أبسط من ذلك بكثير، إنها تدل على أننا عمليّون، نجاري العصر، ونأبى أن نكون في ذيل القافلة، "كأننا لسنا كذلك!"· إننا نستجيب لمتغيرات العصر·· والسؤال هو: وإذا تغيرّت متغيرات العصر فهل سنستجيب لها أيضا؟ وهل سنظل نستجيب إلى ما لا نهاية؟ حتى نصل إلى لحظة فقدان الذاكرة؟

أختم كلامي بمقتطفات من كتاب بعنوان "بلدي" لكاتب داغستاني اسمه رسول حمزاتوف، يقول حمزاتوف في فصل بعنوان اللغة: "يقال إنه لم يكن في اللغة الآفارية في الماضي، الماضي البعيد جدا، سوى عدد قليل جدا من الكلمات· فمفاهيم كالحرية، والحياة، والشجاعة، والصداقة، والخير، كان يعبر عنها بكلمة واحدة أو بكلمات متشابهة جدا من حيث لفظها ومعناها· ليقل الآخرون إن لغة شعبنا فقيرة· أما أنا فأستطيع أن أقول بلغتي كل ما أريده، ولست في حاجة إلى لغة أخرى كي أعبر عن أفكاري ومشاعري··· لغات الشعوب بالنسبة لي كالنجوم في السماء· أنا لا أود أن تذوب النجوم كلها في نجم واحد ضخم يغطي نصف السماء· الشمس كفيلة بذلك· لكن لندع النجوم تتلألأ هي الأخرى، ولتكن لكل إنسان نجمته· أنا أحب نجمي- لغتي الآفارية الأم- وأنا أصدق الجيولوجيين الذين يقولون: قد يوجد في الجبل الصغير ذهب كثير··· إحدى النساء صبت على رأس امرأة أخرى هذه اللعنة: "ليحرم الله أولادك اللغة التي تتكلم بها أمهم" ···· إلى هذا الحد تكون اللعنات مرعبة في بعض الأحيان· لكن في الجبال، وحتى بدون لعنات، يفقد الإنسان الذي لا يحترم لغته احترامه، فالأم الجبلية لن تقرأ أشعار ابنها، إذا كانت مكتوبة بلغة فاسدة···"·

حقا يا أهل داغستان الجبلية "يفقد الإنسان الذي لا يحترم لغته احترامه"، حتى وإن تحوّل إلى فراشة مبتسمة تطير من شدة الفرح·

* جامعة الإمارات

�����
   
�������   ������ �����
القراءة للأطفال ..خطوة نحو تثقيفهم
حين يميل الميزان
منذورون للموت
الترجمة.. سلاح القوة المفقود
نشد على يديْ هذا الرجل
إشكالية الثقافة
لبنات المجتمع الكبير
اللغة العربية في جامعاتنا العربية
الانتزاع من الوطن
مفهوم التحضر.. تساؤلات ومواقف
كوب لبن أم كوب ماء؟
فراشة مبتسمة تطير من شدة الفرح
هوية في مهب الريح
عن الرياضة والثقافة
العمى والبصيرة
مَنْ لأبنائنا؟
ثوابت ومتغيّرات
الطب.. وأخلاقيات المهنة
تحولات المكان
  Next Page

صراع الحضارات والقيم العالمية:
علي حصيّن الأحبابي
أنا مش معاهم!:
سليمان صالح الفهد
السيناريو الأصعب:
د.عبدالمحسن يوسف جمال
القضية وآباؤها الجدد!!:
سعاد المعجل
بين الشيخ والمواطن:
على محمود خاجه
"الديرة رايحة... يا فلان":
المحامي بسام عبدالرحمن العسعوسي
حيلة كليوباترا...:
الدكتور محمد سلمان العبودي
دبي.. هي الرؤية المستقبلية:
د. محمد عبدالله المطوع
كما نتمنى يا حكومة ويا مجلس الأمة:
محمد جوهر حيات
هيبة القانون والقدوة:
محمد بو شهري
الوطن ومسؤولية المواطن:
المهندس محمد فهد الظفيري
الحي القديم لا يموت:
مريم سالم
معنى التجربة:
د. فاطمة البريكي
الجرح النازف:
عبدالله عيسى الموسوي
نوابنا والأخلاق..
الجريمة والعقاب!:
خالد عيد العنزي*
فراشة مبتسمة تطير من شدة الفرح:
د. لطيفة النجار