رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 16 مايو 2007
العدد 1774

لبنات المجتمع الكبير
د. لطيفة النجار
Latifa64@emirates.net.ae

تستمد المجتمعات الإنسانية كثيرا من قوتها واستقرارها وأمنها من عدد الأسر التي تتمتع بالتماسك فيها، والتي تنجح في أن تكون ملاذا آمنا لأفرادها، ومصدرا من مصادر سعادتهم ونجاحهم في الحياة· وكثيرا ما نسمع التربويين والمهتمين في شؤون الأسرة والتنشئة يرددون "إنّ الأسرة لبنة من لبنات المجتمع" ، فلو كان المجتمع بناء كبيرا، فإن هذا البناء يزداد متانة ومنعة بقوة لبناته وتماسكها· ولنا أن نتخيل بناء يعتري لبناته الضعف والهشاشة، إن هذا البناء سيكون مهددا بالانهيار والسقوط في أي لحظة، ولن يجد ما يمده بالقوة والمقاومة للوقوف في وجه الرياح أو الأعاصير العاتية· فالأسرة مجتمع صغير، وبقدر ما تتمتع المجتمعات الصغيرة بالوحدة والانسجام والتفاهم يتحقق للمجتمع الكبير المنعة والقوة والحماية، التي تدفع عنه آفات كثيرة وأمراضا خطيرة قد تسبب تآكله وضعفه· ولكن هذه المجتمعات الصغيرة أصبحت في عصرنا الحالي مهددة أكثر من أي وقت مضى بعوامل كثيرة متداخلة تفت في عضدها، وتضعفها وتهدد أمنها واستقرارها، ولعل تأمل الواقع قليلا، ومتابعة بعض الاستطلاعات والدراسات المتخصصة في هذا الشأن يضع بين أيدينا أمثلة كثيرة على بعض الظواهر التي تشير إشارة مباشرة إلى أنّ أمن الأسر مهدد تهديدا واضحا تحت وطأة ما تحياه من أنماط معيشة لم تعهدها من قبل·

ولعل ظاهرة الطلاق هي أول هذه الظواهر وأبرزها وأكثرها تأثيرا في استقرار الأسر، وتنشئة الأبناء تحت سقف آمن محب ، فقد أشارت كثير من الدراسات إلى أنّ هذه الظاهرة آخذة في الانتشار والاتساع، وأنّ نسبة كبيرة منها يقع في الأسر الشابة التي لم تكمل من عمرها بضع سنين، مما يشير إلى فقدان كثير من الشباب والشابات في مجتمعاتنا الوعي الصحيح الناضج الذي يؤهلهم إلى تحمل مسؤولية بناء أسرة وتربية أبناء، والمشاركة الإيجابية في تقبل الطرف الآخر وتفهم احتياجاته بعيدا عن السذاجة والتهور والمطالب الشكلية الآنية التي سرعان ما تتلاشى مع مرور الأيام والشهور· وكم سمعنا وقرأنا عن قصص زواج تنتهي في لمح البصر، والأسباب معظمها ضعيفة واهية تشير إلى احتمال تكرار الطلاق مرة ومرات إذا كان الطرفان بهذه العقلية السطحية، وهذه الشخصية الهشة، وهذه الأهداف الشكلية التي تحركهما للزواج والارتباط بالآخر· وهذا أمر يحتاج إلى أن نقف عنده طويلا، وأن نفكر في طريقة عملية نسهم بها في تربية أبنائنا تربية صالحة تجعلهم أهلا لتحمل مسؤولية الزواج، وتساعدهم على فهم متطلبات الحياة الزوجية الحقيقية بعيدا عن المظاهر المزيفة والشكليات الخادعة التي لا يطول بها العمر فتفنى، ثم يفاجأ الزوجان الشابان بالحياة بوجهها الآخر مما يتطلب نضجا ووعيا وقدرة على التعامل مع الظروف التي قد تكفهر أحيانا وتكشر عن أنيابها·

وإذا تركنا الطلاق وما يترتب عليه من آثار مدمرة على الأسرة والمجتمع فإن كثيرا من الأسر تعاني من مشكلات أخرى لا تقل خطورة عنه، فبعض الأسر يعاني في صمت من سوء معاملة الزوج لزوجته، أو الأب لأبنائه، وبعض الأسر يعاني من الإهمال الشديد الذي يصل أحيانا إلى حرمانهم من أبسط حقوقهم المادية والمعنوية، فهناك أسر لا تجد من ربّها ما يعينها على الحياة الكريمة في ظل الظروف المعاصرة التي نعرفها جميعا، وهناك قصص تشير إلى أنّ بعض الآباء يبذر أمواله في متاهات التسلية والسفر والملذات بينما تعاني أسرته في صمت، يمنعها تعففها من التصريح والشكوى· ولنا أن نتخيل تأثير هذا الأمر في نفوس الأبناء الصغار منهم والكبار، وما قد يقوده إحساسهم المكبوت بالغضب والحنق، وإحساسهم بالحاجة إلى ظل يظلهم ويقيهم إحساس النقص والحاجة والعوز· إن كثيرا من القصص التي نقرؤها عن جنوح الأحداث تقع خلفها أسباب من مثل الإهمال المادي من قبل الأبوين أو أحدهما، أو سوء المعاملة والقسوة، أو الحرمان، الذي يجعل الأبناء يتجهون إلى انتزاع حقوقهم من المجتمع بطرق غير مشروعة أو أساليب تقودهم - بعد ذلك- إلى سبيل الانحراف والإجرام·

وإذا كان لنا أن نفترض أن ظاهرة الإهمال المادي والقسوة في المعاملة لا تصل في مجتمعنا الصغير إلى مستويات مقلقة مقارنة بالمجتمعات الأخرى، فإن الأسر في مجتمعنا تعاني من إهمال من نوع آخر، إهمال مقنع، قد لا تلحظه العيون من أول وهلة، ولكنها بعد تأمل وإمعان نظر سترى أنّ هذا النوع من الإهمال لا يقل خطورة عن سابقه، بل إنه قد يتعداه، لأنه غير مكشوف ولا ملموس، فلا ينتبه إلى أثره وخطره، ولا يوضع موضع الاهتمام والنظر· فكثير من الأسر -خاصة في هذا الزمن- يعاني أفرادها من انقطاع أسباب التواصل اليومي الذي يفتح أبواب الحوار بينهم واسعا صريحا، فالأب قد لا يلتقي أبناءه إلا لماما، وهو إذا فعل فإن الحديث بينه وبينهم لا يتعدى ذلك النمط الذي يدور بين الأغراب، ولا يجاوز السطح إلى العمق· والأم إذا حدثت أبناءها تحول الحديث بينهم إلى جدال وصراخ، وانقطعت أسباب التواصل الحقيقية بينهم التي يطمئن إليها الطرفان، فيفتح كل منهما قلبه للآخر مصارحا شاكيا خائفا أو فرحا سعيدا متأملا·

إنّ عددا كبيرا من الأسر يعيش نوعا خطيرا من الغربة والانفصال، فهم جميعا يعيشون تحت سقف واحد، قد يلتقون في مواعيد ثابتة، مثل أوقات الطعام مثلا، ولكنهم -مع ذلك- يجتمعون اجتماع الأغراب البعيدين، فكل واحد منهم له عالمه الخاص، وأحلامه وهمومه التي لا يقدر على أن يتحدث فيها أمام باقي أفراد أسرته، لأنه لم يعتد على ذلك، ولم ير منهم ما يشجعه على أن يفعل· ولذلك نرى أنّ الأبناء يستعيضون عن الأهل في مثل هذه الأسر بالأصدقاء الذين يكونون ملاذهم الآمن، ولنا أن نتصور كم ستكون العاقبة وخيمة إذا كان هذا الملاذ بوابة للانحراف والوقوع في الهاوية! إنّ هذا النوع من الأسر يظن أنّ واجبه تجاه أبنائه في توفير الحاجيات المادية، بل إنه قد يبالغ أحيانا في ذلك، وكأنه في قرارة نفسه يشعر بالتقصير، فيحاول أن يحارب هذا الشعور بالإغداق على الأبناء، وإغراقهم بما يفوق حاجاتهم من الملبس والمأكل والسيارات والهواتف والإكسسوارات، بحيث يعيش الأبناء في حالة من التخمة المادية، تقابلها حالة من الخواء العاطفي والروحي، وأنى لمثل هذه الأمور أن تروي ظمأ الصغير (أو الكبير) إلى صدر يحتضنه، أو أذن تسمعه بصدق واحترام وتفهم؟ وقد يفاجأ المرء حين يرى أو يسمع عن أب لا يعرف في أي مرحلة دراسية يدرس أبناؤه، ولا يدري ما الأشياء التي يحبونها، وما الأشياء التي لا يحبونها، ولا يعرف من هم أصدقاؤهم، ولا يدري أين يقضون نهارهم، وكيف·

إنّ هذا الشكل من الإهمال والانشغال عن الأبناء له آثاره الخطيرة أيضا، فلا يكفي أن تعيش الأسرة تحت سقف واحد، بل يجب أن يسمع هذا السقف دقات قلوبهم وهي تفيض بالحب والامتنان والاحترام والتقدير، تحتاج جدران المنزل الكبير أن تسعد بحديث الأب الطويل مع ابنه، أن تراه يجلس إليه مستمعا مهتما متفهما، أن تسمع حوارات دافئة يبث فيها الصغير للكبير همّه، ويبوح فيها الكبير للصغير بمشاعره وحبه وخوفه، يحتاج الفضاء الذي يحيط بمنازلنا أن يبتهج بالضحكات تنطلق جذلى سعيدة يتقاطع فيها صوت الأب والأم والصغار· ومع ذلك فإن هذا الفضاء لا يعدم مثل هذه الأصوات والضحكات الجميلة، فما زالت كثير من منازلنا تضاء بالمحبة والرعاية والتواصل الحقيقي الصادق· ولكنّنا نود لو تشتعل مثل هذه القناديل في كل بيت من بيوت أرضنا الحبيبة، فيضاء الكون حولنا بالنور الدائم الصافي، فيغمض كل فرد منا عينيه كل ليلة مطمئنا أنّ هذا المجتمع الكبير يقف راسخا مشدود الأزر بلبنات عجنت بالقوة والمنعة والمحبة، فلا خوف إذن ولا تهديد·

* جامعة الإمارات

�����
   
�������   ������ �����
القراءة للأطفال ..خطوة نحو تثقيفهم
حين يميل الميزان
منذورون للموت
الترجمة.. سلاح القوة المفقود
نشد على يديْ هذا الرجل
إشكالية الثقافة
لبنات المجتمع الكبير
اللغة العربية في جامعاتنا العربية
الانتزاع من الوطن
مفهوم التحضر.. تساؤلات ومواقف
كوب لبن أم كوب ماء؟
فراشة مبتسمة تطير من شدة الفرح
هوية في مهب الريح
عن الرياضة والثقافة
العمى والبصيرة
مَنْ لأبنائنا؟
ثوابت ومتغيّرات
الطب.. وأخلاقيات المهنة
تحولات المكان
  Next Page

لبنات المجتمع الكبير:
د. لطيفة النجار
الثقل الخليجي مكوناته وتداعياته:
عبدالله محمد سعيد الملا
مشروع الورقة الرابحة:
سعاد المعجل
"مظفر النواب.. وتريات ليلية":
المحامي بسام عبدالرحمن العسعوسي
مفهوم الوطنية في ميزان العقل:
فهد راشد المطيري
الديمقراطية الفرنسية والهوية الوطنية:
علي عبيد
جمعيات النفع العام في شراك الاستبداد:
فيصل عبدالله عبدالنبي
زين يسوّي فيك الصقر:
على محمود خاجه
العجز الاكتواري وصندوق التنمية:
أحمد سعود المطرود
الإصلاح والشكوك:
المهندس محمد فهد الظفيري
دروس من تقرير (فينوغراد)(2):
عبدالله عيسى الموسوي
حرّاس المستقبل:
ياسر سعيد حارب
التفكير من أجل التغيير:
د. فاطمة البريكي
دولة الرجال العربية المتحدة! :
علي سويدان