رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 30 مايو 2007
العدد 1776

نشد على يديْ هذا الرجل
د. لطيفة النجار
Latifa64@emirates.net.ae

كان عنوانا لافتا حقا ما نشرته صحيفة "الإمارات اليوم" في عددها الصادر يوم الخميس بتاريخ2007/5/17 ، وهذا هو نصه: "أكد تعرضها لموجة من الهوس التغريبي في مصر: المسيري يقاضي مبارك بسبب تدهور اللغة العربية"· وكلنا يعرف عبد الوهاب المسيري صاحب موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية"، المتخصص باللغة الإنجليزية، المنسق العام للحركة المصرية من أجل التغيير "كفاية"· ولا أريد هنا أن أتحدث عن الرجل بقدر ما أريد أن أتحدث عن الموقف· لقد استطاع الخبر حقا أن يجعلني أبحر في التفكير والتأمل، وإعادة التفكير والتأمل· وعلى الرغم من إحساسي بالتقدير العميق لهذا الرجل "الموقف"، فإن قراءة الخبر مرة ومرتين وثلاث غمرتني بمشاعر الحزن والأسى لما وصل إليه حالنا في وطننا العربي الكبير·

لقد أوضح المسيري في المؤتمر الصحفي الذي عقده في نقابة الصحافيين في القاهرة "أنّ ما دفعه إلى ذلك غيرته على اللغة العربية التي تتعرض في مصر لموجة من الهوس التغريبي، وهو ما يخالف نص الدستور المصري، وقوانين تنص على حماية اللغة العربية"، ووصف ما يحدث بأنه استهانة باللغة العربية، وتعبير عن عقدة نفسية، واستلاب إلى الغرب· وأضاف "إن التدهور الذي تشهده اللغة العربية في العقود الأخيرة لا يكشف عجز اللغة؛ فالعجز ليس في اللغة بل في أهلها وإرادتهم وتواطئهم على إعلاء اللغة أو وأدها، مشددا على أن حماية اللغة اختبار حقيقي للإيمان بقدرة أهلها، وقدرتها على أن تظل وعاء للثقافة والتفكير والتعبير"· وقد ذكر الخبر أنّ مثقفين مصريين وجمعيات أهلية تضامنت مع المسيري في دعواه ·

أثار الخبر في الفؤاد شجونا، وعلى الرغم من أنّ المرء يشعر بأنه قد تحدث في هذا الشأن كثيرا، وكتب فيه كثيرا، إلا أنه يبقى همّا لا يهدأ، وقضية كبرى تضرب بجذورها في أعماق الوجود والتاريخ والثقافة والكرامة· لقد أشرت في مقالي السابق إلى أنّ مسألة الثقافة مسألة عصية على التطويع والتنميط، فمهما يكن الغالب قويا مهيمنا مالكا لكل وسائل التطويع والتغريب، ومهما يكن المغلوب ضعيفا فإن سنة الكون تبقى هي هي، وإن صوت الكرامة والتمسك بالجذور والوعي المخلص الصادق لا تخرسه القوة·

إن المرء ليتساءل كثيرا: وماذا يضيرنا إذا نحن احترمنا لغتنا، وتمسكنا بها، وأعلينا قدرها، وطوّعنا كل الوسائل في سبيل تمكينها في نفوس الأبناء، وفي سبيل تقديمها إليهم تقديما ميسرا جاذبا جميلا؟ ما الخسارة العظمية التي ستمنى بها بلادنا ومؤسساتنا إذا نحن أنشأنا صغارنا على لغة أجدادهم ورسولهم وقرآنهم؟ ولماذا يرى قوم من بني جلدتنا أنّ التمكن في الإنجليزية (لغة العصر) لابد أن يقابله اختزال للعربية (لغة الكيان والوجود) ؟ ولماذا يسعى الجميع سعيا حثيثا لحل مشكلة الضعف في اللغة الإنجليزية فيقدمون الاقتراحات والبدائل والأنشطة والدعم المادي والمعنوي والنفسي والعاطفي، في حين يضيَّق على اللغة العربية الخناق فتحاصر، وتختزل، وتسحب من مجالات مهمة حساسة أهمها مجال التعليم في المدارس والجامعات، ومجال المراسلات والتعاملات الرسمية وغير الرسمية، ومجال الإعلام والاتصال؟

 إن الإصرار على تنحية اللغة العربية من الحياة والواقع لهو في رأيي أخطر من كل الكوارث التي تعرضت لها الأمة في تاريخها الطويل، أخطر من غزو التتار والصليبيين وحملات الاستعمار الحديث؛ فهي الأخطر في ظرفها التاريخي، إذ يبدو التواطؤ بين المواطن العادي ودعاة الإقصاء المنظم، ذلك المواطن العادي المسلوب الإرادة والوعي، الذي بدأ الحس الاستهلاكي الذي يتغلغل في أعماقه يتجلى في ازدرائه للغة العربية لأنها لغة القديم والتراث التي لا تناسب كل شيء عصري خارج من الماركات العالمية· لقد جار الزمان على اللغة العربية قديماً لكنها لم تشهد في تاريخها مثل هذه الحملة المنظمة عليها التي يقوم على تنفيذها أبناؤها البررة·

وإذا كنا نشهد مبادرات للعناية بها هنا وهناك، فكيف نقنع أنفسنا ونقنع الآخرين بأننا حقا معنيون بها مدركون أهميتها ومكانتها، ونحن نعمل فيما يشبه التواطؤ غير المعلن على دفعها خطوة خطوة إلى الوراء، لتغيب عن العقول والقلوب والأنظار والأسماع؟ ثم - وهذا الأعجب- كيف نصدح بالصوت عاليا متهمين اللغة العربية بالضعف والصعوبة والتعقيد وعدم القدرة على مجاراة العصر ونحن لا نقوم بواجبنا تجاهها، ولا نفعل من أجلها جزءا يسيرا مما نفعله للغة الإنجليزية؟

ولعل المتأمل في أحوال المجتمعات الأخرى على اختلافها الشاسع في التقدم، وحظها من التطور والسبق في مجال العلوم وصناعة التكنولوجيا، وفي مجال صناعة الكتاب وإنتاج المعرفة سيلحظ، دون كبير عناء، مدى اعتنائها بلغتها، وقوة اعتزازها بها، واهتمامها المخلص الواعي بتربية أبنائها على الالتصاق بلغتهم الأم، وتقديرها، والقراءة والكتابة بها، والإحساس بأنها جزء من كيانهم ووجودهم، وبأنها عنصر من عناصر تميّزهم وخصوصيتهم، مع اهتمام بتعليم اللغة الأخرى وتيسيرها لهم· فهناك قدر من التوازن الملحوظ في تعامل المجتمعات مع ثقافة الآخر ولغته، وهناك اعتزاز واضح- قد يصل أحيانا إلى بعض درجات التطرف- باللغة الأم، واحتفاء بها، وإدراك لما تشكله في ضمير الفرد والمجتمع من قيمة ثابتة لا تزول ولا تجور عليها عاديات الزمان·

أخبروني بربكم هل ننافس في طموحنا طموح اليابان أو الصين أو روسيا؟ هل تخلت هذه الأمم عن لغاتها لتنافس الدول الصناعية الكبرى؟ بل هل تخلت فرنسا وألمانيا وأسبانيا عن لغاتها للدخول في مضمار المنافسة؟ إذا أردنا حقاً وصدقاً أن ننافس في الميدان وأن نكون أمة تحتل مكانتها تحت الشمس فلندرس ولنحلل ما فعل هؤلاء ونجني من نتائج خبراتهم الحقيقية الصادقة·

فهذا التوازن في التعامل مع الآخر يكاد يكون مفقودا إذا تأملنا الواقع في عالمنا العربي، فهناك ما يشبه "الهوس" حقا بكل ما هو غربي، كما قال المسيري، ولعل اللغة هي أكثر ما يعبر عن ذلك "الهوس"، إذ إنّ التضييق الذي تواجهه اللغة العربية اليوم من قبل أهلها، والتوسيع الذي تحظى به الإنجليزية في ديارهم لا يمكن أن يكون مقبولا أو معقولا أو مستساغا، فقد بلغ الأمر حدا لا يحتمل، إلى الدرجة التي ينظر فيها إلى كل من يفتح الموضوع للنقاش نظرة المتخلف الذي غابت عنه أسرار التقدم والسبق، وواقع الأمر أن الإصرار على هذه الغيبوبة الفكرية سيدفع هذا العالم المسكين أكثر فأكثر إلى دنيا التخلف والنسيان·

إنّ موقف عبد الوهاب المسيري المواطن العربي الصادق يترجم عن مواقف كثيرين من أبناء العربية الذين يرفضون أن تقصى لغتهم عن الحياة، وأن يفقدوا هويتهم وثقافتهم وتاريخهم، بحجج واهية لا تصمد أمام أي نقاش جاد أو مسؤول، بحجة أنها ليست لغة العلم ولا لغة السوق ولا لغة العصر، وقد كانت أداة كل ذلك وما تزال، فكل لغة، عند أهلها، هي الأولى التي يجب ألا تضام ولا تنحى أو يستبدل بها بديل آخر، مهما يكن مسيطرا قويا· فكيف يرضى الإنسان لنفسه بديلا؟ إنّ الموقف الذي أعلنه المسيري يعكس شجاعة وجرأة تستحقان التقدير· ولله في خلقه شؤون·

* جامعة الإمارات

�����
   
�������   ������ �����
القراءة للأطفال ..خطوة نحو تثقيفهم
حين يميل الميزان
منذورون للموت
الترجمة.. سلاح القوة المفقود
نشد على يديْ هذا الرجل
إشكالية الثقافة
لبنات المجتمع الكبير
اللغة العربية في جامعاتنا العربية
الانتزاع من الوطن
مفهوم التحضر.. تساؤلات ومواقف
كوب لبن أم كوب ماء؟
فراشة مبتسمة تطير من شدة الفرح
هوية في مهب الريح
عن الرياضة والثقافة
العمى والبصيرة
مَنْ لأبنائنا؟
ثوابت ومتغيّرات
الطب.. وأخلاقيات المهنة
تحولات المكان
  Next Page

أبطال المجتمع:
ياسر سعيد حارب
يبدو أن الموضوع أصبح جديا:
الدكتور محمد سلمان العبودي
نشد على يديْ هذا الرجل:
د. لطيفة النجار
الإرهاب النسوي:
عبد العزيز خليل المطوع
جمال عبدالناصر!!:
سعاد المعجل
تكفير الناس وقتلهم:
د.عبدالمحسن يوسف جمال
قليل من الحياء:
على محمود خاجه
المجتمع المحافظ والنزعة الفردية:
فهد راشد المطيري
وزارة الشؤون "لا عيون ولا أذون":
المهندس محمد فهد الظفيري
جهد أقل...
وإصلاح وتطوير أكثر:
فيصل عبدالله عبدالنبي
وسائل المعلمين... هي نتائج الطلبة:
علي سويدان
عصابة برتبة مقدم:
المحامي بسام عبدالرحمن العسعوسي
بقاء الجراح جرح... للإصلاح!:
محمد جوهر حيات
59 عاما على نكبة فلسطين (2):
عبدالله عيسى الموسوي
"الأنا" أولا و"الكويت" أخيرا:
د. بهيجة بهبهاني
سراب الإصلاح وحقيقة الفساد:
أحمد سعود المطرود
الامتلاء من أجل العطاء:
د. فاطمة البريكي
هوامش على حديث دعيج الشمري وقول ما لا يقال!:
خالد عيد العنزي*