رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 21 فبراير 2007
العدد 1763

هوية في مهب الريح
د. لطيفة النجار
Latifa64@emirates.net.ae

قد يبدو الحديث عن اللغة وتأثيرها العميق في تشكيل الهوية حديثا معادا، كثر فيه الكلام، فماذا يمكن أن يضيف المرء لكل ما كتب وقيل؟ خاصة في منطقة الخليج التي نعرف كلنا خصوصيتها الديموغرافية، وتداخل العوامل والأسباب التي تجعل الحديث عن الهويّة حديثا ذا أهمية قصوى، وأولوية عالية في وقت يشهد العالم فيه عملية متسارعة عمياء لإذابة الفوارق الحضارية بين البشر، وكسر الحدود بقوة العولمة وهيمنة التدفق المعلوماتي الهائل، وأدوات الاتصال السريعة التي تختزل العالم، وتختصر المسافات، وتقفز فوق كل الخصوصيات التراثية والتاريخية والدينية·

فلا شك أنّ العلاقة بين اللغة والهوية علاقة وجود، فكلنا يعرف - كما يؤكد المختصون - أنّ اللغة أسلوب حياة، وهي جزء أساسي من كينونتنا، ولها أثر كبير في الفكر والشعور· فهي لا تشكل معالم هويتنا فقط، ولكنها تحدد شروط القبول أو عدم القبول، ومعايير الانتماء أو عدم الانتماء· يقول كاستل، وهو أحد العلماء الباحثين المعروفين في قضايا الهوية والعوامل المؤثرة في تشكيلها: "في عالم يخضع لعملية إذابة الفوارق التراثية، وكسر الحدود بين الحضارات من خلال فكرة الحداثة، وقوة العولمة فإن اللغة - التعبير المباشر عن الحضارة- تصبح خندق المقاومة، والحصن الأخير لحماية الذات، والملاذ الأقوى للهوية والتراث"·

ويؤكد علماء الاجتماع أنّ المجتمعات البشرية تبدي ردود فعل واضحة تجاه العوامل التي قد تهدد كيانهم ووجودهم، أو تعمل على اختراق خصوصياتهم الحضارية والتاريخية، ولا فرق في ذلك بين المجتمعات الكبيرة والصغيرة التي قد ينظر إليها على أنها أقلية تشكل نسبة ضئيلة في بنية مجتمع كبير مختلف· والأمثلة على ذلك كثيرة، لعلّ أكثرها طرافة وأوضحها مفارقة ردود الفعل التي سجلها السكان الأصليون لجزر هاواي في الولايات المتحدة الأمريكية ، كما تشير إلى ذلك دراسة أجراها أحد أساتذة كلية التربية في جامعة كاليفورنيا، فعلى الرغم من تعدد الجنسيات الهائل في هذه الجزر، الأمر الذي جعلها الولاية الأمريكية الأولى بأكثرية سكانية من غير البيض فإنّ السكان الأصليين للجزر الذين لا يتجاوز عددهم نسبة %20  سجلوا موقفا تاريخيا يؤكد أهمية التمسك بالهوية من خلال التمسك باللغة، أهم تجليات الهوية وأكثر أشكالها قوة وتأثيرا، ففي عام 1970 ظهرت في هذه الجزر حركة عرفت بحركة الدفاع عن الهوية، ونجحت بإصرارها أن تجعل اللغة الأم للسكان الأصليين لغة رسمية للجزيرة إضافة إلى اللغة الإنجليزية، وفي عام 1987 استطاعت هذه الحركة أن تفتتح عددا من المدارس التي تدرس باللغة الأم للسكان الأصليين، مرسلة بذلك رسالة قوية مفادها "أنّ تراث هاواي ولغتها وناسها ما زالوا أحياء ويشكلون قوة مهمة يحسب لها حساب في ذلك الأرخبيل الأمريكي"·

وفي عام 1994 استطاعت هذه الحركة أن تنشئ نظاما إلكترونيا كاملا لاستخدامه على شبكة الإنترنت بلغة هاواي الأصلية، وهذا النظام يستخدم الآن بفعالية كبيرة في تلك المدارس وفي جامعة هاواي· وتجدر الإشارة هنا، إلى أنّ هذه اللغة لم تكن قبل ذلك معروفة أو متداولة إلا من قبل ما نسبته أقل من %2 من سكان الجزيرة·

ولعل سائلا يسأل إذا كان هذا هو حال أهل هاواي الذين يعدون أمريكيين، ويمثلون جزءا أساسيا من الولايات المتحدة الأمريكية، ويعيشون في بؤرة التأثير الكبير للنظام العالمي الجديد· فما بالنا نحن العرب ننظر إلى الأمر نظرة فيها الكثير من التهاون بشأن اللغة العربية، والتقليل من أمرها، وعدم الاكتراث بما ينالها من تهميش وتجاهل وإنكار؟ أظن أنّ المسألة ترتبط ارتباطا قويا بالوعي، الوعي بأهمية اللغة الأم وقدرتها الفاعلة على ترسيخ الهوية وتعزيز الانتماء وتقوية الإحساس بالذات، وحمايتها من الذوبان في الآخر، ومن القبول بالتبعية له والانقياد لسلطته·

كثيرون هم الذين حين يفتح موضوع اللغة للنقاش يقابلون الأمر بشيء من البرود واللامبالاة، اعتقادا منهم أنّ الأمر غير ذي بال، وأنّ الحديث في مسائل اللغة والهوية والتراث والحضارة والخصوصية المجتمعية كله حديث انفعالي عاطفي لا يتكئ على منطلقات علمية، ولا يستند إلى معايير منطقية مقبولة، ولا يتماشى مع روح العصر التي تسير بسرعة الضوء بشروطها هي، فمن أراد أن يلحق بها استجاب لشروطها، وإلا فإنه سيكون في عداد المتخلفين الذين قد يعطلون مسيرة التقدم والتطور في المجتمع·

كثيرون هم الذين يبتسمون ابتسامة الساخر الناظر من علٍ إلى من يتحدث عن معاناة العربية وما تلقاه من تجاهل وإقصاء متعمد، وكأن لسان حالهم يقول أما زلتم تتحدثون في الموضوع؟ أليس لديكم ما هو أهم من قضية اللغة هذه؟ وما الضير في أن تكون اللغة الإنجليزية - وهي لغة العصر- هي لغة الحديث في مؤتمراتنا ولقاءاتنا الرسمية وغير الرسمية، وما الضير في أن تكون الإنجليزية هي لغة المراسلات الرسمية، ولغة التدريس، ولغة التواصل في المواقف الرسمية؟ وحبذا لو تكون كذلك في المواقف غير الرسمية، إنّ ذلك لن يضيرنا ولن يهدد كينونتنا، بل إن ذلك شرط أساسي من شروط قبولنا في محيط التقدم والتطور، وإلا فإن "الآخر" سينظر إلينا على أننا متخلفون، وقد لا ننال القبول والرضا·

لقد أصبح "الآخر" هو الذي يحدد لنا ما نأخذ وما ندع· وليس عندنا من ينظر إلى المسألة نظرة الواعي الفطن إلى بواطن الأمور وخفاياها· فما دام القوم يعرفون اللغة الإنجليزية فما ضرهم أن تطوى صفحة العربية طيا، وأن تمحى من وجودنا اليومي، وحياتنا بكل تجلياتها، في البيت، والمدرسة، والمؤسسة الخاصة منها والعامة؟ وكأن اللغة - عند هؤلاء - أداة جوفاء مثل أي أداة جامدة يستخدمها الإنسان لتحقيق أغراضه· آلة من الآلات التي لا قدرة لها على التأثير في الفكر والوجدان، ولا سبيل لها إلى اختراق الذات والهوية، ولا تأثير لها في عزل الإنسان عن تراثه وتاريخه وحضارته· يكفي هنا أن أشير إلى مقال كتبه أحد الأساتذة الأمريكيين من أصل إسباني يعمل في جامعة جورجيا بعنوان "تعلم النسيان:تأملات في اللغة والهوية" إذ يقول: "لقد علمتني أن أنسى، أقصد معلمتي التي درستني في الصف الثاني، أنا لا أذكر اسمها، ولا ملامحها، ولا نبرة صوتها، لا أذكر إلا أنها علمتني كيف أنسى، أعني أنها علمتني أن أتحدث الإنجليزية بطلاقة· ولكن لتحقيق ذلك كان عليّ أن أتعلم نسيان الإسبانية· ما زلت أعرف الإسبانية، أستطيع أن أتحدث بها، وأقرأها، وأكتب بها· لكنني فقدت إحساس الإلف بها، والشعور بالقرب من ماضيّ وتاريخي الذي تتيحه لي، لقد أضعت بشكل أساسي كل الرؤى والأصداء المرتبطة بلغتي الأم"·

إننا بحاجة إلى أن نكون عمليين، وأن نماشي العصر، وأن نلبي احتياجات سوق العمل، وأن نسجل أنفسنا في سجل العالم المتحضر· هذا أمر لا غضاضة فيه ولا جدال، ولكنّه لا يكون أبدا على حساب ثوابتنا ولغتنا، فكما يقول فيخته "إن اللغة التي ترافق المرء وتحركه حتى أعمق أغوار تفكيره وإرادته هي التي تجعل من الناطقين بها مجتمعا متماسكا يدبره عقل واحد· إن الذين يتكلمون لغة واحدة يؤلفون من أنفسهم كتلة موحدة ربطت الطبيعة بين أجزائها بروابط متينة، وإن كنا لا نراها· إن الحدود التي تستحق أن تسمى حدودا طبيعية بين الشعوب هي التي ترسمها اللغات"· وإنني أتساءل بعد ذلك: حين يتنازل المرء عن لغته الأم بكل أريحية، ويتفاخر بالتحدث بلغة أجنبية بغية إثبات تحضره وسبقه، هل يكون حقيقة في حالة تحضر أم في حالة احتضار؟

*جامعة الإمارات

�����
   
�������   ������ �����
القراءة للأطفال ..خطوة نحو تثقيفهم
حين يميل الميزان
منذورون للموت
الترجمة.. سلاح القوة المفقود
نشد على يديْ هذا الرجل
إشكالية الثقافة
لبنات المجتمع الكبير
اللغة العربية في جامعاتنا العربية
الانتزاع من الوطن
مفهوم التحضر.. تساؤلات ومواقف
كوب لبن أم كوب ماء؟
فراشة مبتسمة تطير من شدة الفرح
هوية في مهب الريح
عن الرياضة والثقافة
العمى والبصيرة
مَنْ لأبنائنا؟
ثوابت ومتغيّرات
الطب.. وأخلاقيات المهنة
تحولات المكان
  Next Page

حكاية شاعر عاشق لمصر(2-2):
سليمان صالح الفهد
لماذا يمجدون الطاغية؟ :
د.عبدالمحسن يوسف جمال
نحن جميعا ألكساندرا!!:
سعاد المعجل
مهلا سيد بلير!!:
د. محمد عبدالله المطوع
شكرا كرة القدم:
ياسر سعيد حارب
سفارات وسفراء:
المحامي بسام عبدالرحمن العسعوسي
تسمم صحافي!!:
الدكتور محمد سلمان العبودي
"التفكير الخالق للمعرفة":
عادل رضـا
هوية في مهب الريح:
د. لطيفة النجار
أين وزارة التربية من مدارس التعليم الخاص؟:
محمد بو شهري
مقبرة للحاضر وأخرى للتاريخ:
مريم سالم
هلا فبراير.. دعوة فرح حزينة:
على محمود خاجه
السلطة الذكورية في حضرة الموت:
د. فاطمة البريكي
النفوذ اليهودي في ألمانيا:
عبدالله عيسى الموسوي
دواوين الظل ولوبيات الناخبين.. ونواب بوطقة!:
خالد عيد العنزي*
لا يتعلم جورج بوش من تكرار أخطائه:
د. نسرين مراد