رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 25 أبريل 2007
العدد 1771

الانتزاع من الوطن
د. لطيفة النجار
Latifa64@emirates.net.ae

قلت لصديقتي ونحن نتحدث عن فعل القراءة، ما تفعله القراءة في ذواتنا، أرواحنا، أفكارنا··· تلك اليد الخفية السحرية التي تمتد إلى أعماقنا السحيقة البعيدة·· تغرس بهدوء، وأحيانا بصخب شديد، بحنان ، وأحيانا بقسوة شديدة، فكرة غريبة·· سؤالا يظل معلقا بلا جواب·· صورة ناعمة·· إحساسا مبهما·· تغرس·· تغرس·· ثم تسوي الأرض بأصابع الحكمة والتبصر·· تربت على التربة مرة أو مرتين·· وتختفي·· بصمت·· تتلاشى في فضاء الزمان والمكان·· ولكن الغرس يبقى·· يحتضنه دفء الفؤاد·· يسقيه من ماء التجارب·· يغذيه بالتأمل·· والتفكير·· والغوص بعيدا بحثا عن معرفة جديدة·· وبالقراءة أيضا يغذيه·· غرس ينبت في الأعماق هناك·· يتحرك في الداخل·· فيحرك الخارج·· ويهديه·· ويعلمه·· ويسير معه في مسارات الحياة الكثيرة المتشعبة·· بصمت يقول له تذكر أنك يوما قرأت في مثل هذا الأمر·· هل تذكر حين قرأت في تجربة مشابهة·· ماذا حدث حينها؟ كيف كانت التجربة بالنسبة لذلك الشخص؟ ماذا فعل؟ هل تذكر كيف بكيت مرة وأنت تقرأ في مثل هذا؟

قلت لصديقتي، ونحن نتجاذب أطراف الحديث: حين أقرأ كتابا جيدا·· رواية مثلا·· أشعر أنّ هناك يدا تمتد من الكتاب وتجذبني إلى الداخل·· داخل الكتاب·· وحين أغلق الكتاب·· أتوقف عن القراءة لسبب ما·· أشعر أن هناك هالة خفية لا ترى تحيط بي·· فأنا أفكر فيما حدث، وما يمكن أن يحدث؟ وكيف حدث ذلك؟ ولماذا؟ كيف يمكن أن يكون في الحياة نمط من البشر كشخصية كذا؟ وهل يعقل أن يتصرف الناس في الحياة كما تصرفت شخصية كذا؟ وما أشد ما يحير الإنسان أن يكون في مثل الموقف كذا؟ وقد يجوز أن يصل الإنسان إلى هذه الدرجة من القسوة أو الأنانية أو التفاني أو·· أو·· وإن الإنسان كائن مثير للشفقة حقا، فكيف يستطيع أن يظلم كل هذا الظلم ولا يهتز في أدنى شعور بالذنب أو الندم؟·· دوائر من الأسئلة تنداح بلا نهاية في خاطري·· وأنا داخل تلك الهالة الخفية·· التي تفصلني عن العالم·· ومع ذلك فهي تصلني به·· إنني أرى الناس، وأتحدث معهم، وأسألهم عن أحوالهم، إنني أرى طلابي، وأحضر محاضراتي·· أكتب·· أتحدث في الهاتف·· أواصل حياتي اليومية كالمعتاد·· ولكني حين أكون على موعد مع كتاب أكمله في آخر النهار·· يمتلئ وقتي بالتأمل·· وأكون كمن هو على موعد مع شيء جميل·· وحين تجرفني الشواغل عن القراءة·· فليس هناك كتاب أكمله·· ولا أسئلة تنثال علي داخل هالتي الخفية·· أشعر بالفراغ·· فراغ كبير·· إنني في الحقيقة أشعر بالفقد·· كمن فقد شيئا·· جزءا حقيقيا من ذاته·· فهو في بحث عنه·· يبحث·· ويتساءل من أين أتى هذا الفراغ الكبير؟ أين ما يملؤه ويسكّن الروح والعقل والفؤاد؟

قالت لي صديقتي، وهي تدرك ما أقول: إنني حين أقرأ وترتعش روحي لسطر جميل أو صورة موحية أو كلمة معبرة أتذكر أنّ هذا يحصل بسبب اللغة··· إنها اللغة التي تفعل هذا الفعل فيّ·· حين تمر عيناي على كلمات في نص·· فأتوقف، وأرفع رأسي قليلا·· وأغمض عيني·· وأسمح لنفسي أن تتخيل روعة المنظر أو الصورة·· أو أمنح نفسي فرصة أن تعي كل التفاصيل الرائعة التي عرفتها الآن فقط وأنا أتابع بعيني سواد الكلمات على بياض الورق·· فإنني أكون ممتنة جدا للكلمات··· إنها اللغة التي تمنحنا ذلك·· ولذلك·· فإن الأجيال الشابة حين تصارحنا بأنها لا تتفاعل مع اللغة العربية، ولا تفهم كثيرا مما يقال فإن هذا لأنهم لا يقرؤون·· ولا يمنحون أنفسهم فرصة أن يجربوا فعل القراءة تجربة حقيقية متأنية·· يمارسون فيها فعل الصبر والمثابرة·· إنهم دائما على عجلة من أمرهم·· فهذا زمن السرعة الذي لا يتواءم مع الانفراد بكتاب في ساعة يسكن فيها الزمن·· ويذوق فيها القارئ لذة العزلة عن ضجيج العالم الذي على عجل·

قلت لصديقتي: إذا كان الشباب لا يقرأ، وهذا يقصيه عن اللغة، ويحرمه لذة الاكتشاف الذي تمنحه إياه، فإننا أيضا نسهم في إقصائه عنها·· إننا في الحقيقة ننتزعه منها·· إنّ العملية أشبه ما تكون بالانتزاع من الأرض والتهجير إلى أرض أخرى جديدة·· لكنّ الأرض هنا ليست التي نطؤها ونعيش عليها فتكون لنا موطنا·· لنا وطن على الأرض·· ولنا وطن من الكلمات·· وطننا اللغوي·· هذا الذي يشدنا إليه·· ونحن نحاول جاهدين أن نتفلت منه·· أن ننتزع أنفسنا وأبناءنا وأحفادنا من طينه الذي يكتنز برائحتنا·· وتاريخنا·· وديننا·· وسجل طويل من الذكريات المثقلة بالآلام والأحلام والانتصارات والهزائم·· إننا نرتحل عنه رويدا رويدا·· فأبناؤنا إذا قرؤوا في المدارس أو البيوت سيقرؤون كلمات ليست وطنهم·· وهم إذا سمعوا أو تكلموا امتلأ الفضاء حولهم بأصوات ليست هويتهم·· إنّ العلم اليوم يدرس بكلمات من وطن آخر·· وطن له رائحة لا تشبه رائحتنا·· طينه·· ذراته·· أرضه·· سماؤه·· أقماره·· نجومه·· كل شيء فيه ليس لنا ولا بنا·· ولكننا نجتهد أن نقحم أنفسنا فيه·· أن نصبح جزءا منه·· إنه رحيل لا يرى رأي العين··· لأنه ليس رحيل الجسد من فضاء إلى فضاء·· إنه رحيل الروح والعقل من لغة إلى لغة·· حين يرطن أبناؤنا بكلمات الوطن الجديد·· وحين تصبح للأشياء أسماء من كلمات الوطن الجديد·· نحن في الحقيقة نغادر وطننا اللغوي إلى وطن جديد·· فلا غرابة أن يكون الجيل اليوم جيلا ينظر إلى العربية على أنها شيء لا يحرك فيه تلك المشاعر التي نتحدث عنها أنا وأنت ومن هم مثلنا من أبناء الوطن القديم·· لقد أرسوا رحالهم في مكان آخر·· فكيف سيطربهم قول من مثل:

واحرّ قلباه ممن قلبه شبم

ومن بجسمي وحالي عنده سقم

وكيف ستكون لكلمات من مثل مجرة، وكوكب، وأحافير، وأوعية دموية، وإحصاء، وكسر عشري، وجذر مربع، و··· الخ أي صدى في عقولهم، وهم قد غادروا أرضها·· وكبروا في أرض أخرى بكلمات مختلفة لها وقع لا يشبه وقع كلمات العربية؟ إن اليد التي تغرس الحكمة والمعرفة في عقولهم ليست يدا عربية·· إنها حين تسوي الأرض وتربت عليها مرة أو مرتين·· تفعل ذلك بروح الآخر المبتهج بانتشاره وسيطرته·

إنني أرى معظم الناس يرتحلون·· رحيل يومي حثيث·· إلى وطن جديد·· وإذا كان الشباب اليوم ممن قد درس بالعربية معظم سنوات تعليمه يقول لك: نحن لا نفقه شيئا من العربية، وهي لا تطربنا ولا تجذبنا، فكيف سيكون حال من سيبدأ خطواته الأولى في اكتشاف العالم والأشياء بكلمات من وطن جديد؟ حق للأجيال القادمة أن نحفظ لها وطنها·· وأن نحميها من أن تنتزع منه··· حق قد لا تطالب هي به لأنها لن تعيه·· لكنه سيبقى عالقا في الضمير·· شوكة منغرسة تدمي وتؤلم وتخز·· هذا إذا كان في الضمير بقية من حياة·

* جامعة الإمارات

�����
   
�������   ������ �����
القراءة للأطفال ..خطوة نحو تثقيفهم
حين يميل الميزان
منذورون للموت
الترجمة.. سلاح القوة المفقود
نشد على يديْ هذا الرجل
إشكالية الثقافة
لبنات المجتمع الكبير
اللغة العربية في جامعاتنا العربية
الانتزاع من الوطن
مفهوم التحضر.. تساؤلات ومواقف
كوب لبن أم كوب ماء؟
فراشة مبتسمة تطير من شدة الفرح
هوية في مهب الريح
عن الرياضة والثقافة
العمى والبصيرة
مَنْ لأبنائنا؟
ثوابت ومتغيّرات
الطب.. وأخلاقيات المهنة
تحولات المكان
  Next Page

أناقة العقول:
علي عبيد
لقاء المعارضة والقيادة:
د.عبدالمحسن يوسف جمال
دستور الشباب:
سعاد المعجل
بلبل ينعق:
على محمود خاجه
الهرم المقلوب... أزمة ضمير:
المحامي بسام عبدالرحمن العسعوسي
تصريحات لا مسؤولة:
المهندس محمد فهد الظفيري
خادمة للتنازل!:
علي سويدان
بوركت ياصاحب السمو..:
محمد جوهر حيات
سلطة الفاكهة والكوكتيل:
فيصل عبدالله عبدالنبي
مفاهيم رجعية:
محمد بو شهري
حبل الشك انقطع:
أحمد سعود المطرود
السلام الصهيو - أمريكي:
عبدالله عيسى الموسوي
السباق...:
سعاد بكاي
لوعة الغياب:
مريم سالم
الانتزاع من الوطن:
د. لطيفة النجار
لاءاتنا الثلاث..
لا إسقاط لقروضنا.. ولا تنازل عن ديوننا ولا ضرائب علينا!:
خالد عيد العنزي*