“يذكر لنا أبو الوجودية وأحد فرسانها المعاصرين الفيلسوف جان بول سارتر، أن الفرد وحده، ولا لمخلوق آخر يذكر غيره، تقع عليه جل المسؤولية المطلقة لما هو بصدده من مصير محتم في صيرورته وكيانه، لذى وجب عليه (أي الفرد) أن يُحاسب فيما يَخلُ من واجبات حين التقصير بذلك··” (مسرحية الأيادي القذرة - لكاتبها الفيلسوف سارتر)·
كان لزاما علينا أن نصوغ تلك المقدمة مدخلا لما نريد طرحه هنا، حيث الناظر إلى واقعنا الفكري ومعاركه المصطنعة الطاحنة (نشدد على كلمة مصطنعة)، ليتضح له بجلية مدى استيعابنا الضيق لأمور ومستجدات الحياة بصورتها العامة، القريبة منا أو تلك البعيدة·· لهذا، نرى مدى تقبل البعض منا لآراء يتشبث بها وبقوة، لدرجة الإيمان المطلق، وهذا يتأتى من دون شك من واقع تجاربه العقلية المكتسبة على مدى السنين، وهو بذلك يكون قد استدعى بمخيلته ما قد يتراءى له من جميع المدارس الفكرية التي مرت عليه لكي يصل بها في نهاية المطاف إلى ما يعتقده وما يعتنقه من عقيدة وفكر·
لذا، حين يتعاطى أهل الفكر ما يكمن بجعبة مجتمع ناشئ كمجتمعنا، نرى أن السائد مما يطرح على الساحة المحلية من أفكار لدى العامة هي في مجملها آنية تعكس ردود فعل لقضايا لحظية أسيرة حدثها، تزول بزوال مسبباتها ومن ثم نخوض غيرها وبطريقة العلاج نفسها، وإذ نستثني بطبيعة الحال القلة القليلة من أصحاب الفكر النير التائهين في وسط زحمة التهميش تلك وأن مرجع ذلك غير اعتقادنا المتواضع ويعود إلى أسباب كثيرة في مقدمتها كارثة التعليم وبؤس دور الثقافة لدينا، فالناظر لواقع الأجيال الحاضرة، يصعق من شدة الجهل في طريقة تفكيره، والطريقة التي بها يعالج قضاياه، ولا عتب هنا عليه مباشرة، وذلك لأنه جيل نتاج تعليم عام رديء إن لم نقل سيئا جدا، مخرجاته تئن من فقر مدقع حتى النخاع في تجاربه مع معطيات العصر ومفاهيمه سريعة التطور، محصور بزاوية التلقين والتعتيم، ولا مجال هنا لاستعراض سلبيات ذلك، فلهذا دراساته الخاصة التي لايمكن طرحها بهذه العجالة·
الآن ما يهمنا هنا من الأمر هو ماذا يصنع البلد لهم؟ وما أبرز ما يمكننا توفيره لهم لمستقبل لعمري غامض في تحدياته ومعطياته؟ وغير ذلك من الأسئلة الكثيرة التي تؤدي في محصلتها إلى ثورة علمية وثقافية محبطة، فتعليم كهذا لايصنع في آلياته إلا أفرادا من مكونات فسيولوجية لاغير، أي أجساد بلا أرواح، لا تنظر إلى المستقبل إلامن منظور حاضرها وواقعها المادي في الكثير من الأحيان، حتى إذا ما خاض تجربة فكرية تراه بالعموم تائها في كيفية الفكاك منها، وهنا تكمن المأساة الحقيقية، لذا ليعلم من يدعي مسؤولية النشىء من الآن بأن التحديات المستقبلية كبيرة وأكبر مما نتصورها·· والمطلوب هو أن نعيد النظر وبصورة جادة أكثر في كيفية وأسلوب فك رموز وطلاسم التعليم والوعي العام، ومن ثم الوقوف على كل تلك الإشكالات والمحن بصورة علمية محضة، لاتقبل في نهجها التقوقع والانزواء على إيديولوجيات وأفكار العصور الغابرة، والعمل على استثمار مايمكن استثماره لإنشاء مراكز ومؤسسات ثقافية وتعليمية جادة تقدم دراسات بصورة أفضل من تلك المتواجدة على الساحة وما ابتلاها القدر من مصيبة الهيمنة والصراع على مناصبها الزائلة، أكثر من مناشدة أهدافها··
لذا نكرر مرة أخرى، إن لم يتجه اقتصاد البترودولار إلى خدمة هذا الغرض، فسنكون من متسببي العبث به، وأخيراً إن فات الفوت لا ينفع الصوت·· فهل من يجرؤ؟ |