ما يميز الأزمة المتعلقة بشكل أساسي بموضوع الهوية الوطنية عن مثيلاتها من الأزمات الفكرية والسياسية الأخرى والتي عصفت بالجماعات السياسية الدينية على مر تاريخها هو أن الخطاب السياسي الديني الذي تستند إليه هذه الجماعات يصطدم مرارا وتكرارا بحقيقة أن الفكر الديني التقليدي لا يوفر أطرا محددة أو معينة لإنشاء دولة ذات حدود سيادية أو ذات خاصية اجتماعية أو سياسية معينة تميزها عن الدول الأخرى·
فالخطاب الديني العام على تنوع توجهاته الفكرية ركز في رسائله الأصلية على إنشاء دولة "الأخلاق الفاضلة" على الأرض ولكنه لم يكن أبدا مهتما بمناقشة أو إنتاج وقائع سياسية تؤسس لهذه الدولة، فالهدف الرئيسي للخطاب السياسي الديني هو المحاولة الحثيثة والمستمرة على تهيئة الأرضية المناسبة لبناء المدينة الفاضلة التي هي حقيقة لم تخرج من قفص الفكر الى أرض الواقع، أي بمعنى آخر، مناقشة الركائز السياسية والاجتماعية واليومية والتي تهيئ لإنشاء المدينة أو الدولة الفاضلة والتي يحافظ فيها على الحدود والمثل الأخلاقية الدينية من قبل الجماعات السيادينة هو كمناقشة أفكار مجردة ومحاولة تطبيقها غير الناجح على أرض الواقع·
هذه الأزمة تركزت أيضا حول عدم وجود سوابق تاريخية معينة أسست فيها المدينة الفاضلة ونجحت تجربتها السياسية والتي يمكن الاستعانة بها لإنشاء الدولة الدينية الآن أدى في كثير من الحالات الى اصطدام الجماعات السياسية الدينية مع السلطة السياسية لهذا البلد أو ذاك، فلقد أدرك منظرو الجماعات السياسية الدينية في كثير من الأوقات أنه لا بد من وجود هدف سياسي معين يوازي الهدف الأخلاقي الأساسي "المدينة الفاضلة" يمكن من خلاله بناء دولة سياسية·
هاتان الحقيقتان، عدم وجود أطر سياسية أو اجتماعية محددة في الخطاب الديني والتي يمكن استخدامها في تأسيس المدينة الفاضلة واكتشاف أهمية وجود هدف سياسي يسهل عملية بناء الدولة الدينية (استخدام البرلمان كإطار سياسي "شرعي لمناقشة فكرة المدينة الفاضلة"، الاصطدام بالسلطة·· إلخ) أديا الى نشوء أزمة حقيقية لدى الجماعات السياسية الدينية حول معنى أو أهمية مسألة الولاء الوطني بالنسبة إلى المستقبل السياسي لهذه الجماعات·
فالولاء الأول والأخير لدى الجماعات السياسية الدينية هو لمدينتهم الفاضلة والتي ما زالت تدور حول أسس فكرية مجردة تتناقض أشد التناقض مع دولة السيادة السياسية وبعدها الوطني لدى الأفراد، فما يعتبره أعضاء الجماعات السياسية الدينية مصدر إلهام فكري وشرعية فكرية للدولة الفاضلة هو المرجعية الفكرية فقط وليس مركز قوة سياسي معين أو دولة ذات موروث سياسي واجتماعي مميز·
kaaljen@taleea.com |