في الهزيع الأخير من أحداث التسعينيات البحرينية المؤسفة حيث كان الاحتقان السياسي في ذروته، وهو الاحتقان الذي أشاع مناخا من الإرهاب الفكري من قبل مختلف أطراف وقوى الأزمة وإن بدرجات متفاوتة في الممارسة الرسمية منها والشعبية على حد سواء، أتذكر بأني كتبت هنا على حذر وشيء من الوجل منددا بظاهرة حرق العلم الوطني لأي دولة من الدول دون أن أخص "البحرين" بالاسم، بالرغم من أن هذه الظاهرة تخللت بقدر أو بآخر تلك الأحداث المؤسفة، كما انتقدت حرق العلم الأمريكي والهتافات التي تطلق منادية بـ "الموت لأمريكا"، وانطلقت في انتقادي من أن العلم هو الرمز الوطني الأبرز والأقدس لأي بلد من البلدان وشعوبها بصرف النظر عن الحكومة أو النظام القائم فيه، وليس هناك رمز سواه للدلالة على هوية البلد وشعبه·
ولا عجب والحال كذلك إذا ما تضمنت الدساتير والتشريعات الوطنية الحديثة نصوصا وأحكاما مشددة بحق من يمس قدسيته بالحرق أو الدوس أو التمزيق وما شاكل ذلك من صنوف الإساءة إليه·
فإذا كنا مثلا نؤمن بأن أمريكا هذا البلد العظيم وبشعبه متعدد الثقافات والأديان والعقائد المحب لعلم بلاده والمعتز به والمتمسك بقدسيته حتى مع اختلاف أو معارضة شرائح واسعة منه لسياسات حكومته فإن حرق العلم الأمريكي لا يسيء للبيت الأبيض فحسب بقدر ما يسيء للأمة الأمريكية برمتها كيانا وحكومة وشعبا، وبالمثل فإن الهتاف بموتها لن يفهم منه موت حكومتها فحسب بل موت هذه الأمة بأسرها، ومن محاسن المصادفات أن الرئيس الإيراني الإصلاحي المنفتح السيد محمد خاتمي قد طالب في أواخر القرن الماضي - أو مطلع الألفية الجديدة إن لم تخني الذاكرة - بالإقلاع عن هذه العادة "حرق علم أمريكا والهتاف بموتها" وهي العادة التي ظلت أشبه بالطقوس المصاحبة للمسيرات التي تجيشها الدولة على امتداد 25 عاما لدعم مواقفها وسياساتها وبالفعل توقفت الظاهرة ربما نحو عام لكن سرعان ما فرضها المحافظون وعادت لتستمر·
على الصعيد البحريني فإن الأمانة تقتضي القول إن ظاهرة الإساءة للعلم الوطني من قبل جماعات المعارضة لا تقتصر على البحرين ولا على جماعة دون أخرى فقد عرفتها معظم البلدان العربية إن لم يكن كلها، كما عرفتها الغالبية الساحقة من قوى المعارضة الراديكالية العربية على اختلاف انتماءاتها الأيديولوجية، وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد قامت إحدى جماعتين يساريتين متنازعتين تحتكران السيطرة على قيادة "اتحاد طلبة البحرين" في أوائل إنشائه بالتشهير بالأخرى لأنها رفعت علم البحرين في مهرجان الشبيبة العالمي في برلين وكدلالة على ارتمائها في حضن السلطة والذي يأتي في سياق توجهها للمشاركة في انتخابات 1973·
لكن هذه المسلكيات ولله الحمد أخذت في التلاشي الى حد كبير مع انطلاقة المشروع الإصلاحي فأصبح من المألوف بروز هذه المظاهر الصحية الوطنية الحضارية المتمثلة في احتفاء مختلف الجماعات السياسية والدينية وقوى المجتمع المدني بالعلم الوطني ورفعه في مختلف المناسبات وهي المظاهر التي نأمل لها أن تستمر·
أما على الصعيد العربي فإن ظلت ظاهرة طقوس حرق العلم الأمريكي مستمرة فإن الأخطر منها بروز ظاهرة حرق العلم الوطني أو بعض أعلام الدول العربية، ففي الأردن مثلا قامت مظاهرة لإحدى الجماعات السياسية الدينية الممثلة في البرلمان بحرق العلم الوطني منذ أسابيع قليلة خلت·
وفي غزة قبل نحو عامين لم يجد بعض المجاميع المتظاهرة للتعبير عن احتجاجه على السياسة الرسمية المصرية تجاه إسرائيل سوى حرق العلم المصري الأمر الذي أساء الى الشعب المصري بأكمله، وفي غزة نفسها وغداة تأجيل القمة العربية أعدت جنازة لجامعة الدول العربية من قبل حركة حماس لحرقها أمام الملأ، وهي الجامعة التي لا تمثل هذه الدول فحسب بل وتمثل نواة الحلم العربي المتبقي لإعادة التضامن العربي لكي لا نقول وهما وخطأ - غفر الله لنا ولكم - "الوحدة العربية"·
وبالمناسبة فإن حركة حماس نفسها اعتادت لف جنائز شهدائها الذين هم شهداء لوطن محتل يصارع بصعوبات جمة للدفاع عن هويته بعلم حزبها لا بعلم الوطن الفلسطيني المحتل·
وقصارى القول ما زالت قوى التغيير العربية بحاجة ملحة لممارسة نقد ذاتي شجاع وعلى أوسع نطاق لتلك المسلكيات وتثقيف قواعدها للإقلاع عنها وعدم تبرير تسويغها في مختلف الظروف وحتى في أحلك الأحوال·
ü كاتب بحريني |