هل الإعلان عن موت إنسان هو النهاية أم البداية؟ سؤال يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى حينما تدرك أن إنساناً عزيزاً وذا مكانه خاصة لديك، قد انتقل من الملموس والمحسوس إلى عالم آخر· قد تحاول أن تعيد عقارب الزمن إلى الوراء، في محاولة لعدم تقبل الأمر الواقع، أو رغبة في الهروب إلى زمن في الماضي لمواجهة الحاضر الذي ترفضه· وكأن الحالة النفسية المتوترة التي اعترتك عند سماعك للنعي قد جعلت منك طفلاً صغيراً يخشى مواجهة الواقع، أو مراهقاً يعيش أحلام اليقظة، يسعى للهروب إلى الماضي بدل استخدام المشاعر الحسية للمواجهة· إلا أن عجلة الزمن لا يمكن أن تعود إلى الوراء، فإن ذلك الإنسان العظيم قد انتقل إلى عالم آخر، وما زلت أنت في العالم الواقعي·
إن الموت ليس هو النهاية، بل إن الإنسان قد يظل حياً بعد موته سنوات أو قرونا، ولدينا الكثير من الأمثلة عن أموات لا يزال لهم حضور فاعل في الحياة، في حين أن هنالك أناساً هم في الحقيقة موتى وهم أحياء، مصيرهم عالم النسيان، ولو خلدوا أحياء لعدة عقود من الزمن·
إن الإنسان موقف وأخلاق، وإعلانات إنسانية وإنتاج، عمل متفان من أجل الجميع، سهر متواصل من أجل بناء وطن جميل، سعي دؤوب نحو تحقيق حلم البشرية منذ الأزل في حياة كريمة· الأخذ بالنسبة إليه هو العطاء، والوفاء للمبدأ هي الحقيقة لديه، الإيثار وإنكار الذات من سجاياه، التواضع وحب الآخرين ممارساته·
قد يكون ذلك الإنسان معروفاً في المجال الإعلامي، وهذا يجعله في حالة مواجهة يومية مع القضايا والمشكلات، التي قد تكون بمثابة تحد حقيقي له قد يضعه أمام مخاطر كثيرة في هذا العالم الذي لا يرحم من يقف ضد التيار، فقد يكون مصيره الإعدام المادي إذا تمسك بإنسانيته، أو الإعدام المعنوي إذا ما خضع لمحاولة إدخاله إلى عجلة الآخر· فالمجال الإعلامي هو محرقة حقيقية وتحد كبير لأصحاب المبادئ، ولأولئك الذين لا يتكلمون كثيراً وإنما يعملون الكثير وينجزون الأكثر مع مرور الوقت، أولئك الذين يعملون ضمن إطار شرف المهنة، والذين يتمتعون بأخلاقيات الفرسان وسجاياهم، وخاصة في مجال الكلمة، وتظل العلاقات الإنسانية هي السياج الذي يحميهم من نيران الزلل، أو الخروج عن القيم الإنسانية·
كان العديد من أبناء جيلي يتابعون بإعجاب إنتاج وكتابات الرعيل الأول الملتزم الذي حمل راية التغيير وواجه تحديات ذلك الزمن والتزم بالمواقف الإنسانية، سواء في شرق الوطن العربي أو غربه· ومما لا شك فيه أن الرياح القوية التي هبت لتلحق الهزيمة والانكسار بهذه الرموز التأريخية لم تستطع أن توهن من عزائمها وبقيت بمثابة شعلة منيرة رغم مغادرتها للحياة منذ زمن طويل تضفي مشاعر الاستقرار والطمأنينة وتعيد التوازن الداخلي إلى الإنسان المضطرب بفعل ضغوط الحياة اليومية في هذا العالم المعاصر بتعقيداته التي لا تحصى وبمدارسه الفكرية المتعددة التي قد يفقد الكثيرون هداهم في تشعباتها·
كان اللقاء الأول مع فقيد الصحافة العربية الحرة جوزيف سماحة في أروقة جريدة البيان الإماراتية، في ظل رؤية جديدة لقائد عربي قادم من أعماق الصحراء من مدينة دبي·
كان الهدف الأسمى، في تلك الفترة، ولايزال تطوير هذه الجريدة اليومية، لتكون في مصاف الصحف العربية العريقة·
كان ذلك الإنسان، نموذجاً لتواضع الإنسان الرائع في علاقته مع الآخرين، وفي التزامه المهني، كان يمثل نموذج السهل الممتنع، يتعامل مع الجميع ببساطة، وهو في الوقت نفسه أستاذاً في الصحافة، لم يعطك الانطباع بأنك طالب من طلاب الصحافة لدى أستاذ عظيم· لقد خلق مدرسة صحافية في الوطن العربي، كانت صفاته الأخلاقية تفرض على الآخرين احترام ذلك الإنسان، إن الكتابة عن المعلم والصديق والإنسان ذي المبادئ، لن تستطيع أن تعطي ذلك الإنسان حقه، فإنه يمثل النموذج الذي لا يموت بعد فناء الجسد، بل أن مواقفه ستظل باقية للأبد، فهو مثال للسماحة وتواضع العلماء، نموذج يؤكد على أن الإنسان العربي سيظل شامخاً طالما رفع راية الموقف·
كم هو محزن أن يفقد المرء مادياً الأم والمعلم والصديق خلال فترة وجيزة: جوزيف وعلى - أبو يوسف - وتلك التي وهبت لي الحياة، إلا أن الجامع بينهم أنهم كانوا مع الحياة·
رئيس وحدة الدراسات-"البيان"
malmutawa@albayan.ae |