رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 7 مارس 2007
العدد 1764

الاقتصاد وبهجة الإنسان المفقودة
د· منى البحر

نظرا للأهمية الكبرى التي توليها الدراسات الحديثة والقديمة في مجال العلوم الإنسانية لموضوع صحة الإنسان النفسية والعقلية وأهميتها في خلق مجتمع صحي متوازن والمحافظة عليه، ونظرا لأهمية الاعتناء بإيجاد أنساق مجتمعية، اقتصادية أكانت أم سياسية، متوازنة وقادرة على العطاء وتحقيق الأهداف الوطنية المنوطة بها، سأتواصل اليوم معكم من خلال الحديث في هذا الشأن والنظر في موضوع كيف أن النظام الاقتصادي الذي يعيشه العالم اليوم يبدو عليه وكأنه يعمل ضد هذه الجوانب الصحية·

إن دول العالم أجمع تتصارع اليوم على الفرص الاقتصادية الكبرى التي قد تدفع باقتصادها نحو النمو والازدهار· فهناك دول تعمل جاهدة على توفير الفرص الاستثمارية من خلال تغيير وترتيب بيئتها الاقتصادية والاجتماعية على حد سواء، وبالطريقة التي قد تجذب المستثمر وما في جعبته من أموال، ودول أخرى لم تتردد، تحقيقا لرغباتها الاقتصادية، من غزو واحتلال دول أخرى، أو الهيمنة الاقتصادية والعسكرية على دول مجاورة لها أو بعيدة عنها، ليس فقط من أجل النمو الاقتصادي الداخلي، ولكن من أجل أن تتوفر لها إمكانات تجعلها قوة اقتصادية عالمية؛ لأن ما يحكم العالم اليوم ويسير دفة الأمور فيه هي المصلحة الاقتصادية، وليس أية مصلحة أخرى·

بالطبع لابد لنا من الإقرار أولا أنه من المهم جدا لأي مجتمع أن ينمو اقتصاديا، وبشكل جيد، لأنه بدون الاقتصاد لن يتسنى لأنساق المجتمع الأخرى، السياسية منها والاجتماعية، وحتى الثقافية،  التحقق والنمو بالشكل الذي يحفظ لشعوب هذه الدول كرامتها وحريتها، وخصوصيتها في نفس الوقت أيضا· لكن أن يتحول المجتمع كله لحالة اقتصادية، ويكون ما يقود توجهات هذا المجتمع كلها هو هدف واحد أساسي وهو الاستهلاك، وأن يتم إهمال الأهداف الإنسانية الأخرى، وخاصة تلك المتعلقة بالتنمية الاجتماعية، يكون هنا المجتمع، وكما يقول الفيلسوف الألماني إيريك فروم، مجتمعا مريضا· 

يؤكد فروم في كتابه  "المجتمع العاقل" أن كل مجتمع ينتج السمات التي يحتاجها· فعلى سبيل المثال أنتجت الرأسمالية الكالفينية سمات التخزين والادخار، فتم تخزين وادخار كل شيء في مرحلتها، ليس فقط الممتلكات ولكن حتى المشاعر· أما رأسمالية ما بعد الحرب العالمية فقد أنتجت سمات "عصابية" أخرى، وهي سمات التسويق· ومن يتبنى قيم اقتصاد التسويق يفصل نفسه تماما عن المشاعر والحقيقة والمعتقدات الأصيلة· ففي رأسمالية اقتصاد التسويق يتحول كل شيء إلى سلعة، ليس فقط الأشياء المادية ولكن الإنسان نفسه أيضا يتحول إلى سلعة: طاقته الجسدية، مهاراته، معلوماته، أفكاره، مشاعره وحتى ابتسامته، كل ذلك ممكن أن يسلع·  أما الرأسمالية الكونية الحديثة فهي تتطلب بشكل أساسي سمة الكثرة والوفرة في كل شيء؛ الكثرة الخالية من المعنى والروح، سواء كانت الكثرة في العمران أو أنواع الطعام أو الملابس أو الفن والغناء،  والذي لكثرته أصبح سوقيا ورخيصا· فالمهم بالنسبة للرأسمالية العالمية التي نعيش فيها اليوم هو غزارة الإنتاج وإقناع البشر باستهلاكه من خلال استخدام أفضل وسيلة إقناع تملكها اليوم الرأسمالية الكونية، وهي الإعلام المرئي والمكتوب، والذي سخر بشكل حرفي لخدمة أهداف هذه الرأسمالية التي تسعى من خلال الإعلام إلى التحكم في عقول البشر وتسييرها، مع إقناعهم بأنهم يتمتعون بالحرية الكاملة· كل هذه الأنظمة الاقتصادية المتتالية عملت، بدرجات متفاوتة، على ردع وكبت سمات الإنسان الطبيعي الصحي· عملت على تقليص الوجود الإنساني الطبيعي الرافض للبس الأقنعة، والقادر على الحب والعطاء والإبداع الحقيقي، وعملت على حجب صورة الإنسان الإنساني الذي تشكل قيمة الوجود الفاعل لديه شيء أهم بكثير من قيمة الحيازة والتملك· فضلا عن ذلك، عملت هذه الأنظمة، وما زالت تعمل، على تحجيم وتهبيط "الحب"، هذه العاطفة التي يرى فروم إنها الإجابة الوحيدة العاقلة والمقنعة لكل مشاكل الوجود الإنساني؛ فالنظام الاقتصادي المشجع والقائم على مشاعر الطمع والأنانية لا مكان فيه لعاطفة مثل الحب·

كل هذه النظم الاقتصادية السابقة والراهنة عنيت فقط، كما يقول فروم، على بناء اقتصاد معافى على حساب إنسان غير معافى· وما عناه فروم بقوله هذا أن المجتمعات، في سعيها نحو بناء قوة اقتصادية كبرى غالبا ما تتجاهل الإنسان بما تخلقه تطلعاتها له من ضغوطات ومشكلات· وإن المتابع اليوم لتقارير الحكومات والمنظمات العالمية المختلفة، سيجد مقولة فروم هذه تتجلى بوضوح· فعبر السنوات الماضية شهدت معظم ما يسمى بالدول المتقدمة، وبعض مما يسمى بالدول النامية طفرات اقتصادية كبرى، وكان هناك نوع من النمو والانتعاش الاقتصادي غير المسبوق فيها· وفي مقابل هذه الطفرة الاقتصادية، وحسب ما جاء في تلك التقارير، كان هناك تدن حاد في مستوى الصحة العقلية والنفسية في تلك الدول· فعلى سبيل المثال، أصبحت نسبة المدمنين على الكحول والمخدرات فيها أكبر مقارنة بما مضى، ونسبة العنف والجريمة أصبحت أيضا أكبر، كما تعددت وسائل العنف وأصبحت أدواته أكثر شراسة وفتكا· إضافة إلى ذلك، زادت حالات ما يسمى في لغة علم النفس بتحطيم الذات والتخريب، لدرجة أنها وصلت إلى أرقام قياسية· وبشكل عام فإن نسبة الجريمة والموت في العالم اليوم أعلى من أي وقت مضى· فما هو الحل إذن؟

يعمل النظام الرأسمالي العالمي اليوم على تشجيع البشر على النظر والتعامل مع بعضهم البعض على أساس أنهم رؤوس أموال قابلة للصرف والإنفاق، وحتى المتاجرة متى توفرت فرص العرض الأفضل لذلك· ونظام وقوانين التوظيف والإقالة ليست محصورة فقط على عالم الأعمال، ولكنها تمتد إلى حياتنا الشخصية وتحكم تعاملنا مع الآخر· إن المبادئ التي تحكم الرأسمالية العالمية متعارضة تماما مع المبادئ الإنسانية القائمة على الحب والرعاية والمشاركة، حيث إن الرأسمالية العالمية بنظامها الاقتصادي الحالي لا تعمل،على ما يبدو، على تشكيل ذوات إنسانية متوازنة مع نفسها ومحيطها، بل ذوات منفصلة عن نفسها ومشوهة الهوية، ذوات عرجاء مسلوبة الإنسانية لا تعرف كيف تتواءم مع نفسها ولا كيف أن تحب هذه النفس، وبالتالي تكون غير قادرة على محبة الآخر·إذا، ما الحل؟ كيف لنا أن نوازن دفة الأمور؟ كيف لنا أن نعالج ثقوب النفس التي يخلفها نظام السوق الرأسمالي؟ كيف لنا أن نحافظ على إنسان يتمتع بصحة نفسية وعقلية تؤهله للعيش والمشاركة بإيجابية في العالم الذي يعيشه؟ فبدون هذا الإنسان لن تكون هناك حياة ولن يكون هناك نظام اقتصادي قوي· إن كل الأنساق المجتمعية اقتصادية كانت أم اجتماعية أو ثقافية لا يمكن أن تكون وتزدهر إلا بالإنسان المعافى نفسيا وعقليا، وحتى متى تمكن أي نظام من أن يقوى ويزدهر على حساب الإنسان فإن نهايته محتومة، وإذا استمر اليوم فلن يستمر غدا·      لا توجد هناك خيارات كثيرة للفصل في هذا الموضوع، ففي هذا العالم المعولم أصبح من الصعب رفض الدوران في دواليب العولمة أو حتى تجنبها، ويظل خيار التنمية المجتمعية هو الأفضل لتحقيق شيء من التوازن، وللمحافظة على إنسان معافى· وجدير بالذكر هنا، إن ما أقصده بالتنمية الاجتماعية هنا هو التنمية بمفهومها الشمولي القائم على مبادئ الالتزام بالصحة العامة للفرد والأسرة والمجتمع المحلي، والتي بدورها ستعزز الصحة العامة للمجتمع ككل· بمعنى آخر، لكي نخفف وطأة ضغوط الاقتصاد الرأسمالي و"تسليعه" للإنسان نحن بحاجة لتثبيت وتطبيق نظام تنمية اجتماعية يعمل على توفير الفرص لجميع الأفراد لتحديد احتياجاتهم والمشاركة في التأثير في القرارات المتعلقة بحياتهم، ويعزز ويقوي كل الأنساق والأنظمة المعنية بصحة الإنسان العامة، بدءا من النظام التعليمي، إلي التنمية الصحية وتنمية المجتمع المحلي، ثم توفير المؤسسات التي قد تقدم البرامج الفاعلة التي سوف تساهم، ليس شكليا فقط ولكن فعليا، في تطوير الإنسان وتحققه الإنساني والروحي والعملي· ولربما بمثل هذه الجهود نستطيع أن نمسك العصا من الوسط ونحافظ على اقتصاد معافى وإنسان معافى·

جامعة الإمارات

�����
   

"بوعرام" الخطوط الكويتية!:
سليمان صالح الفهد
لماذا الاستقالة؟:
د.عبدالمحسن يوسف جمال
هموم آينشتاين:
سعاد المعجل
ولم يقف حديث اللحى:
على محمود خاجه
"اللي ما يطيع يضيع!!":
المحامي بسام عبدالرحمن العسعوسي
الجمعيات التعاونية يا نواب:
المهندس محمد فهد الظفيري
اليمن الديمقراطي والإبادة الجماعية!:
د. عمران محمد القراشي
المعذرة سيد سماحة:
د. محمد عبدالله المطوع
الاحتقان والتشنج السياسي... والهيئة البرلمانية العربية لحقوق الإنسان!:
محمد جوهر حيات
ماهية الحرية:
محمد بو شهري
"حتمية الانتظار في لبنان":
عادل رضـا
النفوذ اليهودي في سويسرا:
عبدالله عيسى الموسوي
من للغريبة في يومها؟:
علي عبيد
طوفتنا الهبيطة... نحن وأشقاءنا الأشقياء!:
خالد عيد العنزي*
الاقتصاد وبهجة الإنسان المفقودة:
د· منى البحر