يبدو أن عجلة التحرك الدبلوماسي الأمريكي، ستعود من جديد إلى رحلة جيمي كارتر، ذلك الرئيس الذي حاول أن يحل معادلة الصراع بين قوى عديدة في الشرق الأوسط، وأن يدرك أن مصداقية القوتين العظميين آنذاك تتمثل في جهدهما في حل ذلك الصراع الأبدي بين أصحاب الوطن الأصليين· والقوى التي سيطرت على جزء مهم من وطن الغير، وكانت تلك من المرات القليلة التي يتحدى فيها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، القوى المعنية التي تتحكم بالعالم واستطاع أن يضع المسمار الأول في نعش الهيمنة لأصحاب المال والإعلام، وفي الوقت ذاته أن يؤكد أنه مستعد للتنازل عن تربعه على عرش إحدى هاتين القوتين العالميتين في سبيل تحقيق هذا الهدف وأن يدفع ثمنا غاليا لذلك·
إلا أن الغرب ذا الاتجاه الديني سواء من اليهودية أم المسيحية أم الإسلام السياسي عملت على وضعه في مسار الرؤساء السابقين، ولكن ذلك لم يثنه عن المضي في طريقه، فظل يعمل من أجل الإنسانية والبشرية، وظل اسمه لامعاً في سماء العدالة البشرية·
كان من الديمقراطيين في أمريكا، وحاول من جاء بعده وخاصة الرئيس كلنتون أن يلعب الدور نفسها إلاّ أن اللوبي الصهيوني والقوى الأخرى في حكومة الظل استغلت الجوانب السلبية في شخصيته حتى لا تتكرر عملية إحلال السلام في المنطقة، وهكذا أفشلت محاولة كلينتون كما أفشلت محاولات العديد من القوى التي كانت تعمل كل ما تستطيعه لإيقاف عملية الصراع، وبفشل تلك المحاولة فشلت محاولات خلق استقرار في المنطقة الهامة للدول الصناعية وهي منطقة الاحتياطي الأساسي للطاقة·
كانت البداية في خلق ظروف لعدم الاستقرار باستخدام قوى لها طموحات للهيمنة والقوة وحلت المنطقة في حالة صراع جديد، إلاّ أنه وفي هذه المرة كانت تعتمد على خلق فجوة، بل انكسار في التلاحم العربي، قام به ذلك البائس صدام حسين، والذي حطم حلم العرب في خلق نموذج للتنمية في مجتمع يمتلك كل مقومات التقدم والازدهار، ودخل العرب والمسلمون والعالم في حالة عدم استقرار، وضاع الشارع العربي والإسلامي بين الخطاب الديموغوجي والشعارات التي لا تخدم إلاّ أعداء الإنسانية من جديد·
وانقسم العالم من جديد بين العقلانية والعاطفية، بين البحث عن المتغير المزيف وبين تحقيق طموحات الإنسان بشكل متدرج وبسيط، إلا أن كل اللاعبين في تلك الساحة كانت ترتبط خيوطهم بيد مصدر واحد، ولم يدرك أولئك أن الحرب هي بداية مرحلة جديدة، وضع دولي وعالمي جديد، عصر الهيمنة للقطب الواحد، وظل الإنسان سواء في الشرق الحزين أم الغرب المتقدم يدفع ضريبة تلك المرحلة الجديدة من التاريخ· تاريخ انتصار العقلية التآمرية على البشرية وقد يختلف في ذلك أولئك الذين يرون أن الأمور الاقتصادية والسياسية والاجتماعية تسير بشكل طبيعي، وهم بذلك يتناسون أن هنالك العديد من مراكز الأبحاث والدراسات والتي من مهامها إعداد الدراسات والأبحاث لمتخذي القرار اعتمادا على نتائج علمية، تأخذ بعين الاعتبار الجوانب الموضوعية والذاتية، وهي مهمة جداً لمجتمعات طابعها علمي، وتعتمد في قراراتها على المنهج العلمي · وبالتالي هي تخطط وتنفذ وهي صلب العقلية التأمرية إن جاز التعبير، ولا تعتمد على مبدأ التجربة أو المحاولة والخطأ، ألم تخطط منذ "عشرة أيام هزت العالم" للقضاء على العدو التاريخي للرأسمالية·
ومن هنا فإن تلك السياسات هي التي استفادت من الحرب الباردة، واستعدت لمرحلة ما بعد الحرب الباردة·
إلاّ أن التاريخ يؤكد على أن الحلفاء في الأمس قد تكون لديهم خطط متناقضة في مرحلة الانتصار على العدو المشترك في المرحلة اللاحقة، حيث يحاول كل طرف أن يفرض الأجندة الخاصة به، ومن هنا كانت طلائع الصراع واضحة المعالم، بين المشروع الجديد في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، أو بين طموحات أولئك الذين يعتقدون أنهم شعب الله المختار · وبين الذين كان خيارهم خلق حركات ذات طابع ديني لتؤكد على أن الصراع هو صراع بين الديانات، وليس بين التيارات الفكرية، والتيارات العلمانية والتقدم العلمي من جهة، وبين تيار العصور الوسطى من جهة ثانية وكان أن سيطرت فكرة جماعة إرضاء آلهة الهيكل المزعوم، والتي تريد أن تسيطر على العالم، على الاتجاهات التي تقوم على الحرية والعدالة والحق وهي الأفكار التي انطلقت منذ الثورة الفرنسية وثورة سيراتكوسي، وثورة الزنج قبل ذلك تلك التيارات التي كانت تضع المسمار الأول لسوء استغلال الدين وتوظيفه بعيداً عن الأهداف السامية لهذا الدين أو ذاك·
إلاّ أن نصف عقد من الزمان من محاربة التعصب والإرهاب، وسوء استخدام العقلية العامة للناس، وصلت إلى طريق مسدود، ولكن العودة إلى المسرح بمشروع إقامة حوار أو ربما مؤتمر يحل الإشكالية الأعظم والتي امتدت إلى أكثر من نصف قرن باتت وشيكة وقد صدرت إشارات جديدة من هنا وهناك تنبئ بذلك، وربما تريد الذاكرة أن تعود إلى وعد بلفور من جديد· إذ إن هناك وعداً جديدا قد يدخل التاريخ في هذه الأيام، وهو وعد من الحزبين الرئيسين "الديمقراطيين والجمهوريين" في العالم الجديد، بخلق عالم جديد، قد يدخل من خلاله الرئيس الابن جورج بوش في التاريخ، ولعل تصريحات وزيرة الخارجية رايس بخلق حلم جديد في العالم القديم، حلم يقوم على إقامة دولة للشعب الفلسطيني قابلة للحياة، تنهي معاناتهم التي امتدت على ما يقرب من قرن من الزمن منذ وعد بلفور المشؤوم حلم يقوم على أن يعترف العالم بحق شعوب المنطقة في الإفادة من خيرات أوطانهم في صنع تنمية حقيقية توفر للإنسان مستقبلاً زاهراً، حلم يقوم على أن الناس جميعاً شركاء في العيش على الأرض وأن الذي يوحد بينهم أكثر من ذلك الذي يمزقهم، وأن تمازج الحضارات وليس صراعها هو الذي يبني مستقبل الإنسان·
ومن خلالها ربما تعاد الثقة، بل الأمل في خلق عالم بلا مشاكل أو ربما بلا صراع حضارات، مما يؤدي إلى المحافظة على حياة الإنسان والمواطن في الشرق الحزين والغرب الذي يعيش مرحلة من مراحل الاغتراب، حين ذاك يعود حلم الإنسان بوطن للجميع·
رئيس وحدة الدراسات-"البيان"
malmutawa@albayan.ae |