"ويل لمن يقول كل ما يستطيع قوله!"
"فولتير"
· حين يتأمل المرء في محنة "أسرى الكويت" منذ بدايتها إبان الاحتلال "الصدامي" للكويت·· وحتى كتابة هذه السطور يجد أنها تنطوي على كل عناصر الدراما لصياغة رواية مأساوية معجونة حينا بالكوميديا السوداء! وحينا آخر بـ "الترا جيكوميديا" وحيناً ثالثا بمواصفات أدب العبث واللا معقول الذي عرفته أوروبا إثر الحرب العالمية الثانية! إن محنة "أسرى الكويت" تنتمي بمعنى من المعاني إلى "دراما الواقع الحي" الذي قد يبرز الخيال الغني الإبداعي ويتفوق عليه·
إن محنة "أسرى الكويت" بحق "رواية" تبحث عن "مؤلف"·
وإن شئت الدقة فإنها تحتاج إلى راو يدبج ببراعة أكثر: وقائعها وملابساتها، وما اكتنفها من مكابدة ومعاناة وقلق وتوتر··· وجميع المشاعر والانفعالات والأفعال التي رافقت القضية المحنة طوال الخمس عشرة سنة· والراوي في هذا السياق لن يحتاج البتة إلى ابتداع قصص وحكايات من خياله القاطن في "وادي عبقر" إياه، لأن واقع الحال طافح بالحكايا والرزايا والوقائع والممارسات الزينة والشينة على حد سواء·
والرواية التي أطالب بحكايتها حاضرة لدى الناشطين في مجال الدبلوماسية الوطنية الشعبية الساعية لفك قيد أسرى الكويت طوال السنوات الماضية، وموجودة بسجلاتها وصورها ووثائقها وأرقامها ومعلوماتها وأحسبني لا أذيع سراً إذا نوهت بأن توثيق محنة "أسرى الكويت" ونشرها جهاراً نهاراً على الملأ انبثقت عام 1994 في مقر الجمعية الكويتية للدفاع عن ضحايا الحرب التي كانت تحتضنه جمعية أهالي الأسرى والمفقودين (غير المرخصة!) آنذاك!
كان حدس الناشطين يومذاك أن قضية "أسرى الكويت"، أقحمت في نفق التسييس، وفي دوامة "الدنبكة" والتطبيل الإعلامي·· وكل عدة وتقنيات اللف والدوران من دون طائل·
إن هذه الرواية التوثيقية المكرسة لسرد محنة "أسرى الكويت" هي - بمعنى من المعاني - جزء عضوي من تاريخ الاحتلال الصدامي الذي جابهه الصامدون الكويتيون وغيرهم من شرفاء البدون· والعرب وغيرهم بالمقاومة بشتى أشكالها·
ولا يظن ظان أن الغرض من الرواية الشماتة بأحد أو تعرية سوءة قيادتهم الفاشلة لقضية أسرى الكويت·
كل ما في الأمر هو أن يعرف أهالي الأسرى والمفقودين بخاصة·· وأهالي الكويت وكل الناس بعامة كيف تعامل نظام صدام حسين من جهة والحكومة الرشيدة ومجلس الأمة الأرشد من جهة أخرى مع هذه القضية المأساوية·· زد على ذلك دور الناشطين الفاعلين من أهالي الأسرى وغيرهم والذي جوبه بالتعتيم والعقبات والعراقيل المخزية التي يشيب لفضحها الولدان!!
· توقفت كثيراً أمام الخبر الذي نشرته صحيفة "الرأي العام" بصفحة خارجيات المتمحور حول إنشاء الأمم المتحدة لمركز للبحث عن المفقودين في العراق، والكشف عن مصير مئات الآلاف، الذين اختفى القسم الأكبر منهم إبان نظام صدام حسين البائد· ففي الوقت الذي نجد فيه احتفاء الأمم المتحدة بمعرفة مصير المفقودين في شتى أنحاء العالم، نجد أن مجلس الأمة الموقر (ممثلاً بلجنة شؤون الأسرى والمرتهنين ولجنة حقوق الإنسان) والحكومة الرشيدة (ممثلة بوزير العدل واللجنة الوطنية لشؤون الأسرى والمفقودين) يرغبون في إغلاق ملف المفقودين الكويتيين وغيرهم بجرة قرار "هما يوني" لايعبأ بمشاعر أهالي المفقودين ومعاناتهم التي كابدوها طوال الخمس عشرة سنة الماضية·
إن فشل الحكومة الرشيدة في إدارة قضية "أسرى الكويت"، وعجزها عن إطلاق سراح بعضهم أو جلهم أو كلهم، يحتاج الآن إلى لجنة محايدة تحقق في أسباب الفشل الذي نكب به أسرانا دون غيرهم من أسرى حرب تحرير الكويت الذين تم الإفراج عنهم - كما يعرف الجميع - جراء قيام دولهم بسلوك سياسة شعبية قام بها نشطاء غير حكوميين!
إن النشطاء الوطنيين الشعبيين الذين حاولوا طوال عقد من الزمن فك قيد أسرى الكويت: أجهضت جميع جهودهم، ومحاولاتهم الخيرة! فثمة محاولات في هذا السياق الدبلوماسي الشعبي كادت أن تفضي إلى إطلاق سراح العديد من "أسرى الكويت"، ولكن "البعض" لم يرق لهم أن ينسب هذا الإنجاز الوطني الإنساني إلى ناشطين وطنيين وشعبيين لا يمتون الى الحكومة الرشيدة بصلة !
وأحسب أنه آن الأوان لرواية محنة "أسرى الكويت" بلسان النشطاء الشعبيين فطوال الخمس عشرة سنة: لا يعرف أهالي الأسرى والمفقودين بخاصة·· وأهالي الكويت بعامة سوى الرواية الرسمية المتجلية في "زيارات" وفود مجلس الأمة الصيفية·· ورحلات اللجنة الوطنية·· فضلاً عن أنشطتهم "الإعلامية" التي تلعلع في الفضاء داخل الحدود الكويتية دون طائل·
إن الجمعية الكويتية لضحايا الحرب تحتفظ بكل الوثائق التي تسجل مسيرة الدبلوماسية الوطنية الشعبية المكرسة لفك قيد "أسرى الكويت"، وأحسب أن من حقها وواجبها - في هذا التوقيت تحديداً - أن "تبق البحصة" كما يقول إخوتنا "الشوام"، وأن تبلع أو تلفظ الماء الذي في فمها لتروي حقيقة ما جرى،لا سيما أن الظروف التي كانت تستوجب "بلع الأمواس" وتتطلب التكتم والتعتيم قد زالت بزوال نظام الطاغية صدام حسين!
إن أهالي المفقودين وذويهم يتذكرون مقولة صاحب السمو أمير البلاد (لن يهدأ لنا بال إلا بعودة آخر أسير إلى البلاد) وكان يفترض بالحكومة الرشيدة·· ومجلس الأمة الأرشد ترجمة هذه المقولة إلى سياسة وفعل يحققان الرغبة النبيلة للأمير الوالد، لكنها - لسوء حظ أسرى الكويت - تحولت إلى شعار "احتفالي" يزين قاعات الاجتماعات، ويطرز بيارق الهبة الحماسية الجماهيرية التي خبرتها في السنوات الأولى بعد التحرير أو التي جعلت القضية المحنة تراوح في مكانها داخل نفق التسييس المظلم!
وقد شعر أهالي الأسرى أن هذه المقولة نابعة من القلب·· وبخاصة حين تفضل سمو الأمير بلقاء مجموعة تمثل أهالي الأسرى والمفقودين (من الجنسين) حيث أصغى سموه إلى مطالبهم، ووافق على رأيهم ورؤيتهم في اختيار الدبلوماسية الشعبية سبيلاً لفك قيد الأسرى·
وأذكر أن سموه قد بارك جميع الخطوات التي كانت "جمعية أهالي الأسرى" - قبل إشهارها - قد اعتمدتها لعملها· وقال في هذا السياق - بما معناه - "أنا معكم في كل ماذهبتم إليه·· ولكن ثمة أمر واحد أتحفظ عليه بشدة، ولا أرغب فيه· وهو أن تقودكم الدبلوماسية الشعبية، لفك قيد الأسرى، إلى إعادة العلاقات مع نظام صدام حسين"!
ولا حاجة بي إلى القول - بداهة - بأن كل أهالي "أسرى الكويت" يرفضون هذه المقايضة، ومستعدون للتضحية بأرواح "الأسرى" استجابة لنصيحة صاحب السمو التي يتفقون معه على فحواها ومضمونها· متأسين بذلك في شهداء الوطن الذين ضحوا بأرواحهم لحماية استقلاله والذود عن حريته والتشبث بقيادته الشرعية·
إن محنة "أسرى الكويت" في سبيلها أن تدخل التاريخ وتتحول الى ذكرى تنزف بالحزن والألم وجميع المشاعر الإنسانية المتمخضة عن خسارة الوطن والأمة لهذا العدد من البشر، لكن لابد قبل إغلاق ملف أسرى الكويت من رواية مأساتهم الموثقة من بداية أسرهم، مروراً بالجهود الشعبية التي حاولت فك قيدهم وما اكتنفها من عقبات وعراقيل ومفاجآت·· الخ· انتهاء بالأسباب التي أفضت إلى النهاية المأساوية الحزينة لجميع أسرى الكويت· |