| أصبح الآن بإمكان الطائرات القادمة من أوروبا في طريقها إلى الكويت التحليق فوق سماء العراق!! فبينما كانت الطائرة الألمانية في طريق عودتها إلى الكويت أعلن كابتن الطائرة عن تأجيل موعد الوصول لأنه في انتظار تصريح من الولايات المتحدة ليتمكن من دخول الأجواء العراقية!! لم يكن ارتفاع الطائرة شاهقاً فقد كان بالإمكان رؤية ملامح وتضاريس العراق من فوق!! أطللت برأسي وأمعنت النظر في تلك الأراضي الشاسعة ونحن نعبر من الموصل شمالاً وإلى قلب بغداد العاصمة!! ولم أتمالك نفسي من الانطلاق بعيداً في تاريخ أرض ومهد الحضارات البشرية التي حولها المسخ الصدامي إلى أطلال مظلمة تتوزع الإنارة فيها بصورة عشوائية بسبب انقطاع التيار الكهربائي وشح الخدمات بشكل عام!! لكن كل ما حدث ويحدث لن ينفي عن العراق تلك الأهمية الاستثنائية التي طالما ميزته كأرض ودولة تقبع وسط أهم تضاريس الحراك السياسي والاجتماعي في العالم سواء في تاريخنا القديم منه أو الحديث!!
ولا أعلم هنا لماذا تذكرت مطالبات البعض بإنهاء الاحتلال الأمريكي والبريطاني للعراق، وضرورة أن تخرج الولايات المتحدة من أرض العراق بعد أن أتمت مهمتها بإسقاط نظام صدام حسين!! وأدركت كم هم ساذجون في مطالبهم هذه، فأمريكا لن تخرج من العراق ولو اضطرت أن تُضحي بالمئات وليس بالأفراد من جيشها في كل يوم!! فهي تتحرك وفقاً لمعطيات المستقبل التي تقدر كأثمن كثيراً من أن تفرط به بسبب عمليات انتحارية يسقط فيها ثلاثة أو أربعة جنود أمريكيين!! فالعراق ليس كفيتنام التي تأتي كأكثر التجارب العسكرية خسارة في التاريخ الأمريكي وأشدها قسوة!! فيراهن البعض على الخروج الأمريكي المرتقب من المستنقع العراقي مع تصاعد عدد القتلى في صفوف القوات الأمريكية والخشية من أن تكرر المأساة الفيتنامية فوق الأراضي العراقية!! العراق بلا شك في الميزان الأمريكي أثمن بكثير من فيتنام وبالتالي فإن حجم الخسائر البشرية في القوات الأمريكية لن يكون من حساب الخسائر مهما بلغ عدد المتساقطين من تلك القوات!!
نحن هنا في الكويت لا نطمح إلى أن تكون لدينا الرؤية الأمريكية الثاقبة نفسها والبعيدة في مداها ومخططها، لكننا نأمل وباعتبارنا نعيش حالة المخاض التي يمر بها العراق أن تتطور رؤيتنا وأن نبتعد قليلاً عن الحاضر إلى المستقبل الذي أصبح يطرح وبوضوح صوراً ومشاهد تتطلب منا التعجيل في خطوات هي أصبحت مصيرية وضرورية لتعايش مثمر وسلمي ومنسجم مع جار الشمال الذي أصبح الآن في العهدة الأمريكية!!
حديث الدكتور خلدون النقيب الذي أثاره في سلسلة المحاضرات التي أقامها مركز الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية هو بلا شك حديث ثاقب يعبر عن رؤية استراتيجية مستقبلية ناضجة لكل دول المنطقة وليس للكويت وحدها!! ففي ما قاله الدكتور النقيب إن علينا أن نعي أن الأمريكان لن يتركوا العراق في القريب العاجل كما أن العراق سيكون نقطة ارتكاز للسياسات الأمريكية في المنطقة مقابل عدم وجود استراتيجية واضحة المعالم لدى دول الخليج للوضع الراهن·
وأضاف أن ما أمامنا من تحدّ هو في كيفية التعامل مع أمريكا، مشيراً إلى أن ما هو مطلوب ليس مناطحة أمريكا والدخول في مهاترات سياسية بل في توحيد المطالب والخطاب تجاه الموقف من العراق!! وأشار إلى أنه إذا كنا مفلسين ومهزومين فليس لدينا أوراق نتفاوض بها أمام الولايات المتحدة لأنها لا تعطينا شيئاً بالمقابل وأكد على أهمية أن تقوم الكويت بمبادرة بعد قيام حكومة شرعية في العراق لحل مسألة الممرات المائىة على أن تقوم بدور الوسيط في التفاوض مع دول الخليج لإسقاط الديون عن العراق والعمل على ألا يضع أحد الحلول لنا·
نحن في الكويت جزء من المشهد العراقي، وكما عانينا مع العراق محنته مع ديكتاتورية الرعب والخوف، فإننا سنشاركه في مشهد الترتيبات المستقبلية!! وهذه مسألة غير خاضعة لخيار الرفض أو القبول·· لذا فإن المنطق يقول بأن علينا أن نتحاور بشأن ذلك المشهد القادم بصورة أعمق وأكثر جدية من حوارنا حول تصريح نائب رئيس المؤتمر الوطني العراقي بشأن الجزر الكويتية والذي رفضه كل المسؤولون العراقيون باعتباره تصريحاً غير مسؤول!!
ولعل المشهد العراقي البانورامي من نافذة الطائرة القادمة إلى الكويت يترجم بعضاً من المشاهد المستقبلية القادمة!!
suad.m@taleea.com |
