غريب أمر الفلسطينيين وكأنهم على رهان مع الموت، فما أن يتجاوزوا محنتهم في كل مرة ويضمدوا جراحهم حتى يبدؤوا فصلاً جديداً من المأساة أشد فداحة وأبعد خطراً· لقد مرت القضية الفلسطينية بمنعطفات خطيرة في تاريخها الطويل، وكان من أخطر تلك المراحل النكبة الأولى التي تلت صراعاً على الزعامة بين القوى التقليدية والعائلات المتنفذة، وتدخلاً من الدول العربية التي كانت لا تزال تدين بولائها ووجودها للقوى الاستعمارية المتحالفة مع الصهيونية، وقد أدى هذا التدخل إلى ضياع معظم فلسطين، إذ أن هذه الحكومات مهدت بتدخلها للقوى المتعاطفة مع الحركة الصهيونية لتمضي إلى غاية الشوط·
وكان على الفلسطينيين أن يحملوا قضيتهم في المراحل التالية، مما جعلهم يقيسون الأمور بمقياس العمل من أجل قضيتهم، وكم تحملوا في سبيل ذلك من ألوان العسف والظلم وهم يعيشون في كنف الأنظمة والأحزاب التي رفعت الشعارات ولم تفعل شيئاً من أجل قضيتهم! وكل ما جنوه أنهم عانوا الأمرين في السجون والمعتقلات، وكم علق كثير منهم على أعواد المشانق! فأصبحوا بين مطرقة العدو وسندان القريب·
ولقد كان الفلسطينيون منذ مطلع القرن العشرين أكثر الناس حيوية في خدمة القضايا الوطنية والقومية والإسلامية، يدافعون عن قضايا أمتهم بفروسية ونبل، وكانوا من أشد الناس إيماناً بوحدة الأمة ووحدة قضاياها، فقد أرسلت الهيئة العربية العليا بفلسطين أول بعثة تعليمية إلى الكويت عام 1936·
وحين دهمتهم الكارثة التي ألمت بالأمة كلها، وكانت المؤامرة الكبرى على هذه الأمة برمتها، انتفضوا يكافحون تؤازرهم الشعوب، وقد فشلت الحكومات الضعيفة آنذاك في إحقاق الحق وباءت بالهزيمة المنكرة، فتفرقوا في الآفاق في وطنهم العربي الكبير، يعمرون ويعلمون بكل الإخلاص والتضحية متوقعين الدعم والمساندة لقضيتهم، منطلقين من مثاليات ظل هذا الشعب الأوفى لها بين شعوب الأمة، يخوضون النضالات في أوقات السلم والحرب، ويعيشون فيها فعلاً وكأنهم مواطنون من أبنائها، حتى إذا تغيرت الأحوال وجدوا أنفسهم يعيشون في أوهام المثالية التي تربوا عليها أو ربما اقتنعوا بها·
وهكذا مرت الأيام والفلسطيني متوقع منه أن يكون رأس الحربة في سبيل قضايا الأمة باعتبارها قضيته الأولى مؤمناً بأن قضيته لا يحلها إلا تضامن أبناء الأمة جميعاً· لقد كان ضحية العدوان الثلاثي عام 1956، حيث قضى العشرات من الفدائيين والمواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة، وحيث تعرض العشرات من الفلسطينيين في المذابح الصهيونية في كفر قاسم وقلقيلية وقبية ونحالين، إلى جانب المذابح الرهيبة التي حدثت في عام 1948· وتوالت المذابح التي تعرضت لها القرى الحدودية إلى أن احتل الصهاينة فلسطين كلها من النهر إلى البحر، وقاموا بعمليات منظمة لذبح البشر والحجر، فقاموا بعمليات منظمة لسرقة الأرض وقتل الناس، وما زالوا يعملون سكاكينهم في الرقاب حتى يوم الناس هذا· مسلسل دام تشهده فلسطين إلى اليوم، والعالم كله متواطئ لا يحرك ساكناً·
وأما فلسطينيو الشتات فقد تكالبت عليهم التطورات في الفكر والرأي والوجدان، فقد بدأ كثير ممن استضافوهم يضيقون بهم، فبعد أن كانوا البناة والمعلمين والمهندسين والأطباء أصبحوا عبئاً ثقيلاً في كثير من المواطن لأنهم يحملون قضيتهم، بل في كثير من الأحيان يحملون قضايا الأمة كلها، فأصبحوا أمام خيارين: أن ينخرطوا في الأعمال التي تخدم قضيتهم، أو أن يبحثوا عن مكان آخر للعيش· لقد خفت صوت الأخوّه والعروبة في آفاق أرض العرب، خفت حتى أنه لا يكاد يُسمع، ومع خفوته ارتفعت معاناة الفلسطينيين، وزادت غربتهم وعزلتهم، ودار الزمان عليهم دورات كثيرة حتى بدا التبرم بهم وبقضيتهم أمرا لا يخفيه كثير من العرب، وحتى صارت مساعدتهم وإيواؤهم أمرا يختاره الناس إن شاؤوا، لا واجبا دينيا ووطنيا محتوما، فتغيرت المشاعر وتبدلت الأحاسيس، فغدا الواجب إحسانا، وماتت في كثير من الضمائر قضية فلسطين، لأنهم ليسوا منها ولا أهلها·
ولا نعجب في هذه الأيام أن ينخرط بعض أبناء فلسطين في بعض التجمعات أو المنظمات التي تعلن عن خدمة قضايا الأمة وقضية فلسطين، وهي في رأي الناس لا تخدم قضية فلسطين ولا قضايا الأمة ويعمم هذا الفعل على الشعب الفلسطيني كله، لينالوا من بعد ذلك الذبح والتقتيل· لقد تفاجأ الفلسطينيون حين لا تجدي المفاجأة أن كثيراً من الناس والسياسيين والمفكرين بدؤوا يكفرون بوحدة الأمة، وأن عليهم أن يواجهوا المغتصب والعالم وحدهم دون عون من صديق أو شقيق· بل لا فرق اليوم بين الشقيق والعدو في كثير من المواقف وردود الفعل، فأين يولّي هؤلاء الناس وجههم؟ وماذا يفعلون لكي تحل قضيتهم والعالم كله أدار ظهره لهم، وتركهم يكتوون وحدهم بنار ظلم لا تفتأ تزداد اشتعالا؟ فحين يزل نفر منهم يؤخذ الجميع بزلتهم، ويصبح الفلسطينيون جنسا لا يعرف إلا الطمع والخيانة والغدر، وحين ينذر بعضهم أنفسهم للموت فداء لقضيتهم وحقهم يصبح كل الفلسطينيين قتلة إرهابيين· أما فلسطين أرض الإٍسراء والمعراج، فلسطين بلد الأقصى فقد أصبحت دولة مأكولة، قطعة أرض لا تاريخ لها ولا امتداد·· إنها قطعة أرض يهبها الغاصب كما يشاء ومتى يشاء، وهي مساحة يحشر فيها الفلسطينيون مجردين من أدنى الحقوق التي ينالها المواطنون في أي بقعة على الأرض ليقال ها قد أعيدت لكم أرضكم فماذا بعد؟
كم نجح العدو في تمزيق هذه الأمة وتفريق أبنائها! وإن المرء ليصاب بالدهشة الممزوجة بالحسرة حين يتأمل المشهد العربي اليوم، وحين يرى قضية فلسطين نهبا لكل الأهواء والأمزجة، وحين يبحث عنها فلا يجدها إلا في قلوب نفر قليل من الناس ما زالوا يؤمنون بشرعية قضيتهم وحقهم المغتصب· لقد انسلت من الأجساد روح الإخاء والعروبة والقضية الواحدة المشتركة، فأصبح الناس ممتلئين بمشاعر الأنانية والكره لإخوانهم، ضائقين بهذه القضية التي يتساءلون عنها بينهم وبين أنفسهم: وما شأننا نحن بها؟ وما ذنبنا نحن؟ ولماذا علينا أن نتحمل قضية فلسطين؟ لماذا لا يتحملها الفلسطينيون وحدهم؟ تساؤلات بدأت خافتة ثم علت، ثم صارت أفعالا تسير في اتجاه خنق الفلسطيني·· الفلسطيني الذي يخنق في أرضه ويخنق خارج أرضه فإلى أين يفر؟
يحضرني في هذا المقام نداء محمود درويش وهو ينادي "···· ويا لحم الفلسطيني فوق موائد الحكام، يا حجر التوازن والتضامن بين جلاّديك· حرف الضاد لا يحميك، فاختصر الطريق عليك يا لحم الفلسطيني، يا شرعية البوليس والقديس إذ يتبادلان الاسم، إذ يتناوبان عليك، يمتزجان، يتحدان، ينقسمان مملكتين، يقتتلان فيك، وحين تنهض منهما يتوحدان عليك يا لحم الفلسطيني، يا جغرافيا الفوضى ويا تاريخ هذا الشرق، فاختصر الطريق عليك·· يا حقل التجارب للصناعات الخفيفة والثقيلة، أيها اللحم الفلسطيني، يا موسوعة البارود منذ المنجنيق إلى الصواريخ التي صنعت لأجلك في بلاد الغرب، يا لحم الفلسطيني في دول القبائل والدويلات التي اختلفت على ثمن الشمندر والبطاطا، وامتياز الغاز، واتحدت على طرد الفلسطيني من دمه·
تجمع أيها اللحم الفلطسيني في واحد
تجمع واجمع الساعد
لتكتب سورة العائد" ···
* جامعة الإمارات |