من القصص الشعبية الصينية حكاية تقول بأن حكيما صينيا عجوزا مر بأحد أباطرة عصره الشباب وهو جالس يأكل ويشرب مما لذ وطاب مع مجموعة من حرسه تحت ظل شجرة معمرة يزيد عمرها على مائتين وخمسين عاما، وكان هذا الإمبراطور الشاب يحكم بالسيف والظلم والقسوة، وبدأ حكمه بالاستيلاء على ممتلكات الآخرين ومزارعهم وغزا البلدان المجاورة دون وجه حق وضمها إلى مملكته التي بدأت تتسع شرقا وغربا، حتى ضرب به المثل في الغطرسة والجبروت، لدرجة أنه لم يسلم منه أحد من شعبه وجيرانه· فأمر الملك من حراسه أن يأتوه بهذا العجوز وطلب منه أن يحدثه· فسأل العجوز الملك قائلا: "يقال بأنك أعظم من السماء والنجوم؟" فرد الملك ضاحكا: "بالطبع لا"! "ولكن يقال بأنك أكثر ضياء ونورا من الشمس؟" فرد الملك مندهشا بالنفي أيضا· "إذا أنت أوسع من الأرض حجما، وأكثر ثراء مما تخبئه تحتها من ذهب وفضة وجواهر"؟ فبدأ الملك يفقد صبره، ورد غاضبا: لا أيها العجوز الهالك! "إذن أنت بالطبع أطول عمرا من هذه الشجرة التي تجلس تأكل تحتها"! فما كان من الملك إلا أن رفع يديه وصفع العجوز الذي سقط على الأرض والدماء تسيل من وجهه· "إذا أنت أكثر رأفة ورحمة من ظل الشجرة التي تجلس تحتها؟" فأمر الملك حراسه بتقييد هذا العجوز ورميه في النهر، وقبل تنفيذ أوامره سأل الملك العجوز عن آخر أمنية له قبل أن يهلك· فرد عليه العجوز: "اضمن لي بأنك أنت وأبناؤك وأحفادك وشعبك ستبقون مخلدين بعد هلاكي"· ففهم الملك ما أراده الحكيم· فعاد إلى قصره وأمر بإعادة الممتلكات التي استولى عليها، وانسحب من جميع البلدان التي استولى عليها بالقوة، وأوصى بأن يدفن بعد موته بجوار ذلك الفيلسوف العجوز· إلا أن الحكاية تذكر أيضا بأن ذلك الإمبراطور الشاب مات قبل ذلك العجوز بسنين عديدة عندما سقط من على صهوة جواده الذي أبى السير فجأة، فدقت عنقه·
أخبرني أحد الأخوة العمانيين الذين عايشوا إعصار غونو بأنه كان في منزله وبين أطفاله الخمسة عندما هجم عليهم الإعصار· ورغم كل الاحتياطات التي اتخذها تحسبا للكارثة "تخزين المؤن وسد الأبواب والنوافذ" إلا أنه في لحظة ما شعر بأن السقف سيقع عليهم ويهلكون جميعا· وأخبرني بأنه رأى الفزع الأكبر أمام عينيه وأطفاله يصرخون من شدة الخوف بينما زوجته تقرأ القرآن بصوت مرتجف وتطلب من الله أن يرحمهم، بينما البرق والرعد والعواصف والأمطار والسيول تحاصرهم من كل مكان· وأضاف بأنه لأول مرة في حياته يرى قوة الله تتمثل أمام عينيه على شكل صوت وماء وهواء وضوء·
وأتصور بأننا كلنا شاهدنا جزءا من الدمار الذي أصاب المناطق المتضررة نتيجة إعصار واحد في يوم واحد وفي مكان واحد·
ومع هذا، وبعد مرور العاصفة، ننسى حكمة الفيلسوف الصيني ودرس إعصار غونو· ونعود من جديد نحسب بأننا أقوى من الشمس والأرض والطبيعة وأطول عمرا من جذع شجرة في وسط الوديان·
ونعود نحيك المؤامرات والدسائس، ونغزو ونستولي ونظلم ونقتل، ثم نموت وندفن ونعود ترابا من جديد·
نقلت وكالات الأنباء بأن الأسطول الأمريكي الذي يتكاثر هذه الأيام في حوض الخليج العربي "إما لتوجيه ضربة لا إنسانية لإيران الإسلامية أو لحماية إمدادات النفط العراقي الجريح إلى الولايات المتحدة الأمريكية" والذي يعتمد بشكل أساسي في تحديد خطوط مساراته على تعليمات مركز الأرصاد الجوية التابع لوزارة الدفاع الأمريكية، قد فر قبل وصول الإعصار بعدة أيام إلى مناطق نائية في الخليج بعيدا جدا عن مسار غونو المدمر· وحسب تقارير تلك الأنباء، فإنه لو وقعت تلك الأساطيل في طرف عين الإعصار لحولها بمن فيها إلى كتل من الحديد المصهور، وقذف بها عشرات الكيلومترات بعيدا عن خط سيره·
هذه هي قوة الإنسان وهذه في المقابل قوة الطبيعة·
فما زال كل ملك وإمبراطور ورئيس دولة وزعيم بل كل كائن حي في حاجة إلى حكمة ذلك الفيلسوف الصيني العجوز قبل أن تدق عنقه· فهذا الإنسان المخلوق من الماء والطين والذي فقد عقله وحكمته في تعامله مع الطبيعة يتجاهل مدى ضعفه ووهنه، إلى أن تأتيه دروس الطبيعة أو حكمة الرب· ولا أقرب مثلا على ذلك شخصية "السوبرمان" ذلك الاختراع الأمريكي الذي أثار إعجاب العالم ودهشة الأطفال· فالممثل كريستوفر رييف الذي جسد شخصية سوبرمان2 "الذي يرمز بثوبه الأزرق والأحمر إلى علم الولايات المتحدة الأمريكية وإلى تحديها للطبيعة البشرية البسيطة" كان يطير دون أن يوقفه أحد· وكان من سخريات القدر أيضا أن يسقط هذا الرجل الخارق "هذه المرة في الحقيقة وليس بواسطة الخدع السينمائية" من على ظهر فرسه فتدق عنقه، ويصاب بالشلل التام· وعجز كل ما توصلت إليه علوم الطب والجراحة في الولايات المتحدة الأمريكية عن إعادة الحركة إلى إصبع واحد في يده· وتوفي عام 2004 بعد مضاعفات تلك الحادثة، ولحقت به زوجته بعد سنتين· والمدهش في الأمر أنه حتى هذه اللحظة لم يتوصل أحد إلى معرفة سبب جموح فرسه المفاجئ الذي ألقى به على الأرض· ولكن أكثر الاحتمالات ترى أن الظل كان هو السبب! "ترى هل هو نفسها ظل الشجرة الذي كان الإمبراطور الصيني يحتمي تحته، وهل فرسه سليل فرس الإمبراطور؟"·
على أية حال، العالم منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر وهو يعيش حالة غليان لم يشهدها التاريخ من قبل؛ قتل ودمار وثأر وثأر معاكس واحتلال وطمع في ممتلكات الآخرين، وانتشار الفساد وتلفيق الأكاذيب والمؤامرات والتفرقة والعنف والإرهاب الذي أصبح يضرب في كل مكان من العالم والاستغلال والاستعمار الجديد وانقسام شعوب العالم بين غنية إلى حد التخمة وفقيرة إلى حد الهلاك· ومازالت الدول الكبرى مستمرة في تلويث الأجواء بأبخرتها الصناعية وترفض تطبيق اتفاقية "كيوتو" رغم تحذيرات العلماء من مغبة الاحتباس الحراري الذي أدى إلى ذوبان الثلوج في كل أنحاء العالم، وإلى تناقص سقوط الأمطار والمياه وانتشار الأمراض الغريبة والسرطانية· وما زالت الدول الصناعية مستمرة في ضرب كل هذه التحذيرات بعرض الحائط بحجة المحافظة على تفوقها الصناعي والاستراتيجي، وعلى سوبرمانيتها· وأصبح الإنسان لا قيمة له إلا بما يدفعه من ضرائب ورسوم حكومية وخدمة في الجيش، وبعدها إما أن يموت فجأة أو يلقى به في سلة المهملات·
الكرة الأرضية - الكوكب الثالث من مركز الشمس - يبلغ عمرها اليوم أربعة ونصف بليون سنة· ومنذ ذلك الزمن التاريخ لم يولد عليها بشر ولا قامت حضارة إلا وكان له أجل وللحضارة نهاية· لذا مما يثير الاستغراب والدهشة ذلك الكم الهائل من المجازر البشرية والتدمير البيئي الذي يحدث في كل دقيقة لأجل البقاء أو باسم الدين أو بهدف الثراء·
مات ذلك الإمبراطور الصيني الشاب قبل موت الحكيم العجوز، ومات سوبرمان مشلولا وهو لم يبلغ الخمسين، غير قادر لا على الطيران ولا حتى على تحريك يديه، وهربت الأساطيل البحرية الأمريكية من طريق الإعصار غونو الغاضب من أعمال البشر، ومازال الجيش اللبناني يطارد فلول عناصر فتح الإسلام في شمال لبنان، وما زالت عناصر القاعدة تتوعد بوش وتضرب في سكان العراق وتنتشر في كل مكان من العالم·
ونحن في انتظار الكوارث الطبيعية الأخرى لتضع حدا لغطرسة ذلك الإمبراطور الصيني الذي ولد من جديد ويعيش بيننا منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر·
* جامعة الإمارات
dralaboodi@gmail.com |