تظهر المواجهة المثيرة للجدل التي تتواصل شمال لبنان بين ما يسمى خلية "فتح الإسلام" والجيش اللبناني، تظهر هشاشة عظم النظام اللبناني السياسي في التعاطي مع مشكلة ضيقة الأبعاد، أغلب الظن أنها مختلقة مفتعلة· منذ البداية أعلن الناطق باسم قوة خلية "فتح الإسلام" شاكر العبسي الزاحفة على مخيم نهر البارد أن حركته تهدف إلى رفع الغبن عن المسلمين السنة في لبنان أمام المؤامرات المعادية· زُجّت الطائفية السياسية في الموضوع اللبناني سهل التسخين إذا ما جاء ذكر اسم أو رفع شعار يمت للطائفية السياسية بصلة· في عادتها تتحاشى رموز الحكم اللبناني الدخول العلني في موضوع من شأنه توسيع وتعميق الخلافات المذهبية والطائفية، إلا هذه المرة وبادئ ذي بدء· على لسان وجهاء السياسة اللبنانية فإن خلية "فتح الإسلام" السنية الفلسطينية! قادرة على إيقاظ الفتنة وإيقاد نار حرب أهلية أكثر دماراً من سابقاتها، محاولين جرها من الشمال إلى الوسط وأخيراً وليس آخراً الجنوب لمآرب لا تخفى على مطّلع أو جاهل·
بسرعة بدأت طواحين حَبِّ السياسيين اللبنانيين تدور دون وجود دقيق في مطاحنهم، وبدأت نواعير الإعلام تدور دون وجود مياه في مجرى الجدول الذي سترفده الأزمة الطارئة على رؤوس أهل مخيم نهر البارد· تساعد الفضائيات المحلية والإقليمية والعربية والعالمية - التي غالباً ما تكون عيل صبرها في انتظار بارقة حدث من هنا أو هناك- في تهويل وتضخيم الأمور بقصد أو بغير قصد، بضمير حي أو ميت تجاه الضحية المشاهد الذي يتغذى على مدار الساعة من ولائمها الإعلامية·
على الصعيد الإقليمي المجاور والبعيد العربي فإن الحكومات والشعوب العربية محرومة من معرفة حقيقة ما يجري، ومن التدخل ومن حتى لإسداء النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورص الصفوف ونبذ الخلافات، كما جرت العادة· تعلم تلك الأنظمة الرسمية أن أوراق اللعبة السياسية العسكرية الجديدة أو إدارة فصول المسرحية باتت بيد رامبو الأمريكي وقوات المارينز، بشقيها الأمريكي والعربي·
تلا اتخاذ خلية "فتح الإسلام" مواقع لها مقابل وحدات الجيش اللبناني بقليل حدوث تفجيرات مشبوهة في مختلف المناطق اللبنانية تتبع نمطاً طائفياً، من الأشرفية إلى الفردان في بيروت إلى منطقة عاليه في الجبل· حتى أن جندياً في الجيش اللبناني لم يتمكن من ضبط أعصابه حين أطلق نيران سلاحه على طريق مطار بيروت الدولي ليقتل اثنين من الأبرياء بعد سيطرة شبح خلية "فتح الإسلام" المتشددة على مخيلته· بسرعة تم تدويل المعركة حول مخيم نهر البارد، والتدويل هنا هو لفت نظر الإدارة الأمريكية للتدخل، والتي على وجه السرعة باشرت بإرسال معدات وعتاد للجيش اللبناني لمساعدته في إحكام الحصار على خلية "فتح الإسلام"· ثم وسّعت خلية "فتح الإسلام" مواقع انتشارها باتجاه البحر كما يبدو ليسهل على اللعبة استضافة أبعاد جديدة حسبما تتطلبه ضرورات المعركة الإعلامية السياسية وأخيراً العسكرية·
بالتوازي مع الحوادث الجارية على عجالة حول مخيم نهر البارد دخلت مرحلة تشكيل المحكمة الجنائية ذات الطابع الدولي للتحقيق في اغتيال الحريري، وتم التصويت النهائي عليها بإصدار مجلس الأمن الدولي القرار 1757 ذو الطابع الأمريكي، وأخيراً مرحلة التشكيل الميداني للمحكمة الأداة· المحكمة ذات الطابع الدولي ووفق الفصل السابع وبالرغم من احتمال حسن وصدق نواياها حسبما هو معلن، إلا أنها سياسية بامتياز· الأهداف السياسية المنظورة من المحكمة هو المساعدة على اصطياد عدة غزلان برية في رحلة صيد واحدة· تتلخص الأهداف المتوخاة في ضرب المقاومة اللبنانية، وفي التدخل في الشأن السوري، وفي زيادة الضغط على الحكومة الإيرانية، وأخيراً وليس آخراً الإجهاز الكامل على المقاومة الفلسطينية· في ذلك تبدو إدارة بوش الأمريكية مثل راعي الأبقار الذي يحمل عصاً بيده ويهش أو يضرب بها على رؤوس وأجساد الثيران من حوله·
في المحيط تدور رحى تحركات أوروبية - شرق أوسطية رسمية في معظمها تدار خدمة لمصلحة السياسة الأمريكية بسبب تقاطع المصالح بين الأطراف المعنية، وتهدف لتهيئة الأجواء لمواجهة محتملة مع إيران· في ذلك كسبت الإدارة الأمريكية زخماً سياسياً وشعبياً أكبر بعد تولي الرئيس الفرنسي الجديد، نيقولا ساركوزي، والذي أظهر تأييد فرنسا شبه المطلق للسياسة الأمريكية الخارجية بحجة وقوفها المبدئي ضد ما بات يعرف بالإرهاب·
في الولايات المتحدة الأمريكية تواجه سياسة إدارة جورج بوش الخرقاء موقفاً محرجاً خاسراً فاشلاً بسبب الوضع في العراق، الذي عز نظيره تاريخياً منذ الغزو المغولي للمنطقة قبل مئات السنين، من جهة الخسارة العسكرية والمدنية والأخلاقية لأعظم قوة مسيطرة على الساحة الدولية· دولياً كذلك لم تحقق الإدارة الأمريكية أي تقدم بالخير يذكر في حل القضايا التي حشرت أنفها فيها إما مدعوةً من الآخرين أو تطوعاً منها أو تدخلاً سافراً غير مطلوب على الإطلاق· بات على الرئيس جورج بوش أن يحاول الاستفادة من وضع جديد جربه في الماضي ونجح فيه إلى حد بعيد، ألا وهو اختلاق وضع يكون في مواجهة مع القاعدة أو مع جهة تزعم التطرف الإسلامي· يبدو أن السيد بوش وجد ضالته في خلية "فتح الإسلام" خاصة بعد إعلان ارتباطها بأفكار وحتى شخص الشيخ أسامة بن لادن والذي، أي الأخير، أصبح طائر عنقاء وبوصلة السياسة الأمريكية تجاه العالمين العربي والإسلامي·
بات الهدف من المسرحية المهزلة، القابلة لأن تصبح مأساوية إذا ما دعا الأمر، قرب مصب نهر البارد في لبنان أكثر وضوحاً من الشمس المختبئة خلف سحابة صيف· الهدف المبدئي هو الدخول الأمريكي في مستنقع السياسة اللبنانية، والذي على صغر حجمه إلا أنه كاف لإشغال الإدارة الأمريكية الهوجاء لفترة من الزمن، أغلب الاحتمال أنها ستطول وربما تؤدي إلى إنهاء الوجود الأمريكي السياسي في المنطقة· لكن وكسيناريو محتمل، تتطور العملية إلى حد استفزاز وجر حزب الله للمواجهة مع القوى المحلية والدولية، هذه المرة ليكون تحدياً سافراً للحكومتين السورية والإيرانية لمنعهما من الوقوف مكتوفتي الأيدي كما حدث إبان الحرب الإسرائيلية-اللبنانية الصيف الماضي· الدرس الرسالة تقول ها نحن نجحنا في ضرب المقاومة اللبنانية، لا سمح الله، وما عليكم إلا إما الاستسلام لشروطنا بشأن الملف النووي الإيراني والصراع العربي-الإسرائيلي أو أن عليكم الدخول معنا في مواجهة مفتوحة· في هذا الشأن كل سيناريوهات التدخل الأمريكي في لبنان وتطويره لا تعير اهتماماً للمآسي والكوارث التي من الممكن أن تحل بالشعب اللبناني والشعوب الأخرى المجاورة والبعيدة·
على قيادات الأطراف اللبنانية المتنافسة التعقل في التصرفات محلياً وإقليمياً ودولياً بدل تحويل لبنان إلى ساحة للتجاذبات التي لا يمكن أن تأتي لأهله إلا بالويلات والكوارث· على الزعماء المحليين اللبنانيين التلاقي الدائم في سبيل تقوية ورص الجبهة الداخلية التي بزعامتهم واتباع نزواتهم أصبحت أكثر وهناً من بيوت العناكب في مواجهة الأخطار الخارجية· لماذا ينشغل السياسيون اللبنانيون بالتصريحات العنجهية الشمطاء والرنانة وبعلم منهم أنها لن تزيد الأمور إلا سوءاً وتعقيداً خدمة لأعداء لبنان واللبنانيين!؟· إن حكومة إنقاذ ووحدة وطنية مخلصة لهي خير وسيلة يمكن توفيرها لجمع معظم أطياف وأفكار الشعب اللبناني الذي آخر ما يحتاج إليه هو تدفق الأسلحة بشكل عاجل وطارئ لصالح فئة دون الأخرى· القضايا التي لم يتم حلها منذ عشرات السنين سلمياً لا يمكن أن تحل في عجالة مهما بلغت درجة ذكاء العتاد المستخدم، وما الأوضاع في الصومال والعراق وأفغانستان والسودان وفلسطين إلا ما ظهر من سوء إدارة الإدارة الأمريكية في حل الأزمات·
* جامعة الإمارات
nasrin@uaeu.ac.ae |