رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 6 يونيو 2007
العدد 1777

ملاحظات
مذياع حزيران
كامل عبدالحميد الفرس
kamfaras@yahoo.com

هذا المقال بمناسبة مرور أربعين عاما على نكسة حزيران·

صغارا كنا، في الصف الرابع الابتدائي عام 1967، في مدرسة ابن سينا الابتدائية، وكان شهر حزيران من هذا العام متوترا، بطيئا، مملا ورثا في ثيابه، عاكسا وجهة العتم على العامة من حوله· بالمدرسة كنا نتساءل وبعفوية الصغار عن كل هذا الشحوب البادر على وجوه مدرسينا، وعن كل ذلك الارتباك الظاهر عليهم··· ماذا جرى يا ترى؟ فقد كنا بالامس القريب نسمع الأهازيج عالية رادحة صادحة فوق سماء العروبة "الآن·· الآن·· وليس غدا··، والقدس لنا والبيت لنا"، وغير ذلك من الأغاني والأناشيد الحماسية الوطنية مع بعض من الزغاريد لزوم الفرح، حتى كنا نتخيل باننا في حفل زفاف مستمر، أما اليوم، فالامر مختلف، ماذا جرى يا هل ترى؟ عند معرفة السبب يبطل العجب كما يقال·

فأينما وطئت أقدامنا نجده أمامنا، لا يبارحنا ولا نبارحه مقدار أنملة، لم يكن للعرب في حزيران صديقا اوفى وأخلص منه، تشاهده باشكال وانواع والوان واحجام مختلفة، الواحد الاوحد في ليالينا، الاتي من ديار بعيدة لكي يؤنسنا حيث لم يكن لنا أنيس غيره، يحاول نشل ما تبقى من أرواحنا المكسورة الى بر الأمان، يوقظنا من مضاجعنا مبكرا ويستمر يسامرنا حتى منتصف الليل، لا يهدأ له ولنا بال دون العبث به، ندير موجهة لليمين تارة واليسار تارة أخرى، وهكذا دواليك نقضي معه الساعات تلو الاخرى دون ادنى اكتراث لقيمة الوقت، وما فائدة الوقت ان لم يقتل قتلا امامه وأمام جبروته العظيم، يالك من ساحر عجيب، يالك من منقض عنيد، لا تعرف السكينة والنوم ابدا، لا تشتكي من وجع قط و لا تفوه بألم قط جرأ العبث بك·· أنك أنت لا منازع بالساحة غيرك، أنت، ومن منا لا يعرفك·· انك وبدون ادنى شك·· مذياع حزيران·

آه يا مذياعنا·· حسبناك لنا صديقا صدوقا صادقا·· اذ بك بنا متربصا·· حسبنا الصدق فيك طالع·· اذ بك تنثر لنا تباشير الكذبا·

في البيت مذياع وفي الشارع مذياع وفي المدرسة مذياع وفي السيارة، وحتى الحمام لم يسلم منك، وغلام ايضا صاحب البقالة لم يسلم هو الاخر فقد كان له مذياعه الصغير يسمع الاخبار رغم عدم اتقانه العربية بشكل جيد، لكن، وكما يقال، حشر ما الناس عيد·

: "غلام·· غلاااام·· عطنا كاكاو وكيتكات"، نصرخ به لكي يسمعنا، لكن لاحياة لمن تنادي، فالمذياع على آخره، وكان موضعه محمولا بقرب من اذنه، وهكذا نصرخ ونصرخ حتى تكاد احبال اصواتنا بان تبتر من الصراخ، وغلام هذا لا يأبه ولا يصغي لطالبيه فالاندماج بسماع الأخبار على ودنه، وأياك ان تذهب اليه في الساعة الواحدة ظهرا (موعد نشرة الأخبار) فلن تسعد بشراء شيء في لحظتها، حيث القلق والتوتر يبديان على وجهه، وسعيد منا من لم ينهر في تلك الساعة اذا ما اراد منه ما يلزمه، فما عليك اذا سوى الانتظار، حتى يفرغ اخونا من مذياعه هذا ولا حول ولا قوة·

 شنو يبي؟ أنت ما فيك صبر خوه، ما يشوف أنا مشغول··!! هكذا نتعلم الصبر صغارا والعوض على الله·

المهم ان المذياع كان يحاصرنا في كل مكان نقصده، فلم يعد اللعب واللهو لنا حاجة به فوق صراخ وزغاريد مذياع العروبة وخطب الرئيس الملهب، مخلص الشعوب من بؤسها الازلي ومحررها من غلالها، ينادي فينا بعزيمته الواثقة "لسوف نسحقهم، ولسوف نبيدهم عن بكرة أبيهم، ولسوف·· والنصر آت بعونه وبفضل قواتنا الأشاوس وجيوشنا العربية الباسلة، وأنه لنصر مبين"، وبعد ذلك تأتي الاناشيد الوطنية مرة اخرى مدعومة بزغاريد معدة لمثل هذه المناسبات، وهكذا دواليك يتواصل المذياع بوضعه المبهم هذا ساعات وساعات، فتدور الايام بلياليها علينا فلا صوت يعلو على صوت المعركة، الا صوتا واحدا مسموح له بان يلعلع في آخر سويعات المساء، حيث كانت الجماهير ظمأى لصوت الشرق أم كلثوم، تغني وتفجر دموع البشر، ملهبة أرواحهم المهزومة"، خذني بحنانيك خدني·· وعن الوجود ابعدني·· بعيد بعيد انا وانت·· اه·· بعيد بعيد وحدينا"، وغير ذلك من طرب في ليالي العرب·

حتى يأتي الخامس من حزيران، ولايزال صوت المذياع جاثما فوق صدرونا، يزف لنا التهاني والبشرى في من كل ضفاف المعركة، وان صقور الجو العربية تلتهم حمائم العدو الواحدة تلو الاخرى، وهناك من الجنود العرب من ابدع بالميدان، فاين انت يا حميدان، وكل الامر سيحسم بعض سويعات حتى نزف للأمة ما كانت تنتظره منذ زمن، الا فهو النصر آت·· آت·· آآآآت·

وتخرج الجماهير المغدور بشبابها الى الشارع فرحة، هاتفة بكل ما لديها من أناشيد وهتافات معدة سلفا لهذا المناسبات، كما رأيت "العم ابو العبد" فرحا يبث لنا تباشير النصر من مذياعه الصغير في جيبه، والعم ابو العبد هذا مسؤول عن اللوازم الرياضية بالمدرسة، يجلس طوال النهار بالقرب من صالة التربية البدنية، لا يسمح لأحد باللعب او اخذ الكرة دون اذن من الاستاذ فهد مدرس الرياضة، وحيث كانت كرة القدم هي جل ما تمتعنا من الالعاب فقد كنا ناخذها في بعض الاحيان على غفلة منه، حتى اذا ما رآنا ينذفع الينا··

"يا جدع، جيب الكرة·· جيبها بسرعة بقولك"·

وهكذا نتوسل اليه حتى يرفأ بحالنا·· "بس ها المرة عاد"، كم كنت طيب القلب يا أبا العبد، كم كنت رؤوفا بحالنا حولك، لا تكف عن مداعبتنا ولا يغفل لك جفن حتى تراقبنا مراقبة الأم لرضيعها، حين يسقط منا أحد في الملعب، لكي تهرول بأقصى ما عندك من قوة·

وأنت العجوز الورع، الهمام المقدام،لا تتخاذل أبدا في تأدية واجبك، ولا تتأفف او تتململ بمن امرك، كنت لنا بحق معلما للصبر والطاعة وحسن الدراية، ففي ابتسامتك المعهودة تكمن الطمأنينة، وفي هدوئك وصمتك على أوجاع الدهر يقوض الصبر· آآآه··· يا شخينا، ماذا عسانا نقول لك لو كنت الان بيننا عن جحود الزمن؟ وكيف يا ترى نعيد لك ابتسامتك الابوية الساحرة تلك في زمان من بؤسة وعبسه لا يبتسم؟ ماذا ترانا نقول لك عن اوجاعنا، عن الامنا الممزقة او عن حلمنا العروبي البائس؟ اما كان هو الاخر حلمك وحلم جيلكم الأبي؟ كم نحسدكم نحن البؤساء الان حيث لا مكان للحلم بيننا، وماذا تبقى للحلم اصلا لم يستهلك بعد منه؟ عبثا رحلت يا شيخ، وحسن صنعت برحيلك فلم يعد شيء يستحق الذكر، لا المطر ولا الغيث أتيا ليعيدا من بعدك ذكرى زمان الوصل بالأندلس·· فاهنأ يا شيخنا بمضجعك آمنا هادئا، ولاتحسد الأيام من بعد فراقك دائما، فلعمري مافات من الزمان افضل من تلك الأيام الفانيا·

ثم تتابعت الأيام، فها هو السادس والسابع والثامن من حزيران يمضون على رقابنا كما تمضي الايام مملة على عجوز هرم في نهاية عمره، وإذ ينقلب السحر على الساحر، فقد انقلبت كل تلك الاهازيج وذلك الفرح اليتيم الى مأتم أزلي وبأس المصير·· فلم نكن نعي ما نشاهده من اثر علي وجوه معلمينا الافاضل، او علي وجوه العامة من الناس في الشارع من حولنا، ومن ثم من كان ليسعفنا في شرح ما يحصل من احداث علي الساحة، لا من قريب ولا من بعيد، ومن كان بالاصل يملك حقيقة ما عليه من أمر حتى يعلنها للعامة غير ذلك المذياع الاوحد، واحد أحد، له كل الملك وليس لنا سوى السمع والطاعة·

 kfaras@hotmail.com

�����
   

طرح الثقة... تحصيل حاصل:
د.عبدالمحسن يوسف جمال
طريق الآلام!:
سعاد المعجل
مذياع حزيران:
كامل عبدالحميد الفرس
جانبنا الإصلاح:
المهندس محمد فهد الظفيري
"دعج يدعج دعيجا":
المحامي بسام عبدالرحمن العسعوسي
في قفص الاتهام:
فهد راشد المطيري
اللجنة الوطنية لإعادة أملاك الدولة:
فيصل عبدالله عبدالنبي
مظاهرات خداعة وشعارات طنانة:
محمد بو شهري
ما يحدث في السجن:
المحامي نايف بدر العتيبي
استراتيجية موحدة للموارد البشرية:
مريم سالم
النواب النوائب!:
د. بهيجة بهبهاني
محطات من هنا وهناك:
عبدالله عيسى الموسوي
الترجمة.. سلاح القوة المفقود:
د. لطيفة النجار
من يخلصنا من فوضى الفتاوى؟:
علي عبيد
ما بين عامي 1956- 1967!!:
د. محمد عبدالله المطوع