تعلمنا وأحيانا قمنا بتعليم غيرنا أن الحكومات على مر الزمان خصوصا في العصر الحديث هي التي ترفض المنهج الديمقراطي كمبدأ من مبادئ المشاركة الفاعلة في الحياة السياسية، وظل جميع المؤمنون بهذه الفكرة يناضلون من أجل إقناع الآخرين بها حتى تتحول الى حالة عامة ضاغطة على السلطة لإقناعها أن الاستقرار مرهون بزيادة مؤسسات المشاركة الشعبية والابتعاد عن التفرد في رسم لوحة الوطن ومستقبله،ومع الوقت استطعنا أن نزيل من أدمغتنا تلك الجملة المثبطة والتي مفادها أن "الحكومة أبخص" أي أنها على بصيرة غير عادية تخترق من خلالها الحجب السبع إن أرادت ذلك!
ولم يكن يدور في خلدنا أن كثرة الكلام تسمح بتولد الملام أيضا استرشادا بتلك الحكمة البليغة المنسوبة للإمام علي عليه السلام "من كثر كلامه كثر ملامه"، فأصبحنا نتابع جلسات مجلس الأمة وقراءة مقابلات صحافية ساخنة مع أقطاب لها وزنها في التأثير الشعبي وندوات جماهيرية تشترك جميعها في إتجاه واحد، وهي أنهم مصرون على الإيمان بالتعددية والمنافسة النزيهة وتثبيت العدالة وقبول الرأي الآخر ومحاورته بالتي هي أحسن وتأييد الحريات الصحافية، وكل ما لذ وطاب من تلك المفردات الرنانة!
وعندما تضع تلك الجمل المثالية على ميزان العمليات الاجتماعية المتنوعة والمواقف البرلمانية المتباينة تلاحظ أن الذي يقود جزء من ذلك "الاستبداد الناعم" أولئك النفر من الصفوة حيث تجابهك مفارقات غريبة فتجد أن الظرف الاجتماعي الذي يتطلب تعاونا لاستثماره للأفضل يخترقه الصراع عنوة بهدف الإقصاء، والحالة التي يرتضيها المجتمع ويتكيف معها تغور في تنافس إتلافي من دون مقدمات وهكذا، فترى كبير المثقفين هو أول من يمتعض من الانتقاد العلمي أو الصحافي وأن من لهم تاريخ نضالي يتوجسون من أي منافس والاحتقان يظهر على وجنات الأتباع، على الرغم أنهم للتو قد سمعوا خطبة عصماء تتحدث عن التنافس الإيجابي إثراء للساحات والمؤسسات بالمزيد من العطاء! فالمتغنون بالديمقراطية لدينا يستمدون ثقافتهم من أساطير شعراء الجاهلية فهم كانوا يتغزلون بمعشوقتهم ويسطرون للسامعين خصالها لا لصونها وحمايتها، إنما لينالوا من عفتها! لهذا السبب فقد أصبح المواطنون بحاجة الى دراسات أعمق وإلى فهم جديد لطرق الاستبداد وأصبحنا أكثر حاجة الى إحياء أخلاقيات الدين وسماحته لمقاومة الاستبداد·
"رشفة أخيرة"
يقول الفيلسوف الفرنسي "برجسون" أن الإنسان ميال بطبيعته الى موافقة الجماعة التي ينتمي إليها، أما الذي يشعر أنه ينتمي الى البشرية جمعاء فهو يخترق حدود الجماعة التي نشأ فيها ويثور على العرف الذي يقيد كيانها إنه يخاطب الإنسانية كلها بلغة من الحب وكأنه إنسان من نوع جديد!
mullajuma@taleea.com |