الآن وبعد أن وقع العراقيون على نسخة دستورهم الموقت·· يتساءل البعض حول دور الولايات المتحدة في إنجاز ذلك التوقيع، كما يطرح البعض الآخر سؤالا قد يكون أبعد من ذلك وإن كانت الظروف الحالية في العراق قد أعادته الى الذاكرة من جديد وهو سؤال حول دور الولايات المتحدة في مشاريع التحول نحو الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط خاصة، ومن العالم بشكل أوسع، وبالتحديد عن الفترة التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفييتي، بداية تشكل الحالة العراقية تحديا كبيرا بالنسبة إلى الولايات المتحدة لإثبات وترسيخ مصداقيتها لما يتعلق بمشاريع التحول نحو الديمقراطية في المنطقة، فهي أي الولايات المتحدة ترى أن الديمقراطية في العراق (في حالة عمل) وذلك في إشارة من أحد المسؤولين الأمريكيين لواقعة رفض خمسة أعضاء شيعة من مجلس الحكم الانتقالي التوقيع على الدستور الموقت·· حيث يعلق ذلك المسؤول بأن الرفض هنا يعني أن الديمقراطية تتحرك قدما في العراق·
لكن الإجراءات الأمركية خارج العراق لا تسير بالخطوات نفسها المتحمسة فالولايات المتحدة تعتزم فرض عقوبات حقيقية على سورية واستعادة السيادة اللبنانية، ومع زيادة الضغوط على سورية تقترب واشنطن أكثر من التطبيع الكامل لعلاقاتها مع ليبيا، وحيث ستحذف واشنطن وعن قريب اسم ليبيا من قائمة الدول التي تتهمها برعاية الإرهاب، ثم يأتي تصريح نائب الرئيس الأمريكي مذكرا بأن الإصلاح الديمقراطي ضروري للتوصل الى حل سلمي للنزاع العربي - الإسرائيلي·
وعلى الرغم من أن التطبيع مع ليبيا في ظل نظامها الحالي يعتبر خروجا عن اللعبة الديمقراطية·· تماما كما هو في الحديث عن الإصلاح الديمقراطي كمدخل لفك الصراع العربي - الإسرائيلي·· إلا أن ذلك لا يجب أن يثير الدهشة من السلوك الأمريكي في رعاية الديمقراطية الشرق أوسطية·· فمن حق الولايات المتحدة أن تضع شروط اللعبة باعتبارها المهيمنة على اللاعبين، والذين بدورهم يستطيعون - إن أرادوا - تغيير بعض من تلك الشروط، بمعنى آخر إن الاستسلام وبصورة مطلقة للديمقراطية الأمريكية هو بحد ذاته مناقض لجوهر الديمقراطية·· خاصة وأن الحوار الديمقراطي الأمريكي - العربي لا يشمل الشعوب·· وإنما يأتي كحوار مفتوح مع الأنظمة السياسية العربية فقط·· وكما هي الحال في الحوار الأمريكي - الليبي، الذي رشح ليبيا للخروج من دائرة الدول المساندة للإرهاب؟
نحن جميعا نتمنى ألا تكون (نظرية) برزنسكي مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر قائمة في الذاكرة الأمريكية، أو مسيطرة على القرار الأمريكي، بالنسبة إلى برزنسكي ووفقا لمقولته الشهيرة فإن الولايات المتحدة تفضل أن تتعامل مع ديكتاتوريات صديقة على أن تتعامل مع ديمقراطيات غير متعاونة·
مشكلة الولايات المتحدة في مشروعها الرامي الى فرض التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط، أنها تصر على التعامل مع الأنظمة السياسية وليس مع الشعوب أو حتى الأحزاب السياسية بالنسبة إلى الدول التي تتمتع بأنشطة حزبية، ونظرا لكون كل الأنظمة السياسية الشرق أوسطية، أنظمة ديكتاتورية ولو بنسب مختلفة ومتفاوتة، فإن المشروع الأمريكي هو مشروع في الطريق الخطأ، وإلا كيف يمكن تبرير التعاون الأمريكي - الليبي، على الرغم من تنديد وزارة الخارجية الأمريكية في تقريرها عن أوضاع حقوق الإنسان في ليبيا وحيث هاجم التقرير الرئيس الليبي الذي يستخدم النظام القضائي من أجل قمع أي معارضة داخلية، كما أن الشرطة تستخدم التعذيب أثناء الاستجواب، ولا يملك المتهم في ليبيا حق المثول أمام محكمة علنية أو الاستعانة بمحامين، وأيضا تتدخل الحكومة في الحريات الشخصية للمواطنين وتحظر ملكية المنازل، ولا توجد أي حرية تعبير أو صحافة·
ونعود الى الدستور العراقي الموقت الذي بدأنا منه، والذي دفع بالتساؤل عن دور الولايات المتحدة في ذلك الإنجاز العراقي الذي وصفه الرئيس الأمريكي بأنه يشكل مرحلة مهمة نحو إقامة حكومة ذات سيادة، ويبقى التحدي الذي تواجهه الولايات المتحدة بين أن يشكل وجودها بوابة الانطلاق نحو الديمقراطية الشرق أوسطية، وبين أن تستعين الإدارة الأمريكية بفكر ونظرية "برزنسكي" فيتحول الوجود الأمريكي الى ترسيخ الديكتاتوريات الشرق أوسطية·· وليس إزالتها·
suad.m@taleea.com |