في الأسبوع الماضي، كان اللقاء التاريخي بين بوتين وبوش، لحظة من اللحظات التي تترك مجالاً للتوقف العميق للتعرف على مغزى ذلك الاجتماع، إنها أيام غير عادية في تاريخ البشرية· حينما يتم اللقاء بين الشرق والغرب، وبعبارة أخرى بين قطبي الصراع الفلكي، على مدى القرن الماضي· ذلك القرن العشرون، حيث كان مثل هذا الاجتماع يتم بين أولئك الذين يؤمنون بقانون القطاع العام والملكية العامة لوسائل الانتاج، وأولئك الذين يؤمنون بالقطاع الخاص والملكية الفردية لتلك الوسائل· بين عالمين يحاول كل منهما صياغة العالم على أنموذجه· وقد دفعت الإنسانية على المستوى العالمي، ثمن ذلك الصراع سنوات طوال، وظل العالم حبيس ذلك الصراع، وحينما تدخلت الصين كطرف ثالث في ذلك الصراع، كان واضحاً أن هنالك معادلة جديدة في الصراع العالمي، إنها حضارة الشرق في الصين، التي على الرغم من النهج الاشتراكي الذي اتخذته إلا أنها كانت تؤمن بأن لها خصوصيتها المنطلقة من تراث وقيم الشرق القديم، وقد حاولت أن تكون طرفاً ثالثاً في المعادلة بين الغرب الرأسمالي، والشرق الاشتراكي·
كانت الصين ذلك الكيان المستقل الذي يؤكد على حق وجود طرف ثالث يوفر التوازن بين الطرفين اللذين يريدان أن يقتسما العالم كمرحلة أوسع وأهم وهي التحكم فيه·
كان العالم يقع في معادلة السلب والإيجاب، بين عالمين، لم يكن هنالك مجال فاعل للطرح الثالث· اللهم إلا في مجالات الحرب الباردة، سواء في أفريقيا، أو آسيا، أو أمريكا الوسطى، كانت القوى السائدة، تسعى إلى استقطاب الدول في ظل التوازن السياسي بين المعسكرين· وكان بوسع الدول النامية أن تكسب من هذا الصراع في أن يكون هذا الطرف أو ذاك إلى جانبها يمدها بالسلاح وبالمعدات وبوسائل التنمية الحديثة، وقد يكون السد العالي في مصر أكبر مثال على توظيف هذا الصراع لمصلحة دولة من دول العالم الثالث، فبعد أن رفضت أمريكا بناء السد، كان الاتحاد السوفييتي على استعداد لبنائه بشروط قد لا تتكرر عبر قرون طويلة· والعالم أجمع يعرف أهمية السد العالي بالنسبة لاقتصاد مصر الحالي والمستقبلي·
إلا أن تلك الصورة قد تغيرت مع الإطلالة الأولى للقرن الجديد، قرن نهاية التاريخ، قرن انتهاء أسطورة صراع الحضارات، لقد تأكد أن الإنسانية بحاجة إلى السلام، وإلى ضرورة الوصول إليه كهدف أساسي بين التناقضات التاريخية، فالأرض والإنسان في خطر في ظل التقدم العلمي والتقني في العالم، إنه عالم القرن الجديد حيث لم يعد هنالك مجال إلا لفوز فريق ضد فريق آخر لأن العالم لم يعد يتسع لقطبين، إنه قرن عالم القطب الواحد، في ظل التطور الاقتصادي الذي سوف يسود في العالم، بعد أن أصبحت الدعوة إلى الأيديولوجيات تراثاً من الماضي ولقد انتهت بحسب البعض الأيديولوجية الاشتراكية، وسادت الآن الأيديولوجية الرأسمالية، وبات الجهد منصباً الآن على إنهاء الأيديولوجيات الدينية المعارضة لأيديولوجية اليمين الأمريكي المشبع بالأيديولوجية الصهيونية· ليصبح في العالم قطب واحد في الاقتصاد والسياسة والأيديولوجية الدينية والهيمنة على العالم·
من هنا يمكن النظر إلى ذلك اللقاء التاريخي بين بوتين - بوش في معقل العائلة في الولايات المتحدة الأمريكية وليس في روسيا، التي تمثل التاريخ القديم، والعالم القديم، عالم الأسطورة، والتاريخ· الاجتماع لم يكن له أي جانب أيديولوجي فروسيا كما أمريكا تنهج المنهج الرأسمالي، وقضايا الشعوب لم تعد هاجساً يهم أيا من الطرفين، كانت الرمزية، في اللقاء أنه يتم بين من ستنتهي فترة حكمهم التاريخية قريباً جداً، وأنه أشبه ما يكون بصيد السمك، أو ربما في العلاقة بين مستقبل الإنسانية والبحر خاصة, وأن مستقبل الإنسانية في القرن الجديد، يعتمد على أن البحار هي التي تمتلك مستقبل البشرية، حيث إن المستقبل لم يعد على اليابسة، بل في البحار، لذا فإن المستقبل في أعماق البحر·
إلا أن بعض المصادر المطلعة على خفايا العالم تؤكد أن الاجتماع بين بوتين وبوش، لا علاقة له بالقضايا السياسية، بل كان الجانب الاقتصادي هو الأساس فيه، حيث تؤكد تلك المصادر أن الذي رتب لهذا اللقاء هي شركات اقتصادية كبرى مثل بيونج، التي تستورد بعض المواد الخام المستخدمة في الصناعات، من روسيا، ولا توجد هذه المواد إلا في روسيا، وبالتالي فإن ضمان استمرار تدفق هذه المواد كان مهماً في مرحلة ما بعد بوتين، إضافة إلى أن بعض الشركات النفطية التي لها مصالح ومشروعات خاصة في روسيا، تخشى أن يؤثر قدوم سيرجي إيفانوف - وزير الدفاع السابق ونائب رئيس الوزراء الحالي، وهو المرشح الأول لخلافة بوتين عليها، إلا أن بوتين يستطيع أن يحافظ على الأوضاع القائمة وأن يضمن لها مصالحها، حتى لو ترك الرئاسة· ومن هنا كان الحرص على عقد الاجتماع قبل انتهاء ولايته·
ومن جانب آخر فإن شركة غاز بروم وهي من أكبر شركات الغاز في العالم، وتصدر انتاجها لأوروبا بات شبه المؤكد أن الرئيس بوتين مرشح لرئاستها بعد تركه الرئاسة وهو معني بالتالي على مصلحة هذه الشركة وضمان مستقبلها ضمن صفقة اقتصادية واسعة تحفظ مصالح الشركات في الحفاظ، والكارتلات العملاقة· وما يؤكد ذلك أن بعض التحليلات ترى أن حجم الوفد الروسي في هذه الزيارة لم يشارك فيه إلا وزيران روسيان هما (وزير الطاقة ووزيرالاقتصاد)، ومن هنا يبدو أن الشركات الأمريكية الكبرى تريد أن تحافظ على مصالحها، وفي المقابل يريد بوتين أن يحافظ على التوازن في العلاقات الاقتصادية ومصالحه فيها، وتبقى بقية التحليلات السياسية بعيدة عن المشهد الاقتصادي محرك التاريخ، سواء بالنسبة للأمم أو الأفراد، وأن روسيا عادت إلى الجذور التاريخية للنخب الحاكمة، حيث المصالح والحفاظ عليها هي الأساس· أما مصالح الشعوب فإنها آخر ما يرد في اعتبار هذه النخب، ومساكين إذاً هؤلاء الذين يعولون كثيراً على الصراع بين تلك القوى، ويرون أن مصلحتهم مع هذا الطرف أو ذاك، لأنهم لا يدركون أن أحداً لن ينظر إليهم عندما تتحقق مصلحة هذا الطرف أو ذاك، في صفقات تحركها الشركات والكارتلات العملاقة التي باتت تتحكم في مصالح العالم ومستقبله إنها العولمة·!!!
* رئيس وحدة الدراسات - البيان
malmutawa@albayan.ae |