رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 11 يوليو 2007
العدد 1782

رقاقة أشد قسوة من الحجر
عبد العزيز خليل المطوع
???? ??????

في عالم التقنية، بدءا من ساعة المعصم وانتهاء بمركبات الفضاء، تحتوي كل الأجهزة والآلات على رقاقة سيليكونية (ستتحول إلى كربونية في المستقبل القريب) مبرمجة حاسوبيا، ولا تكاد لضآلتها تمثل شيئا من حجم الجهاز أو الآلة نفسها، ولكنها إذا انتزعت منها أو اختلت برمجتها، فإما أن تتعطل الآلة أو الجهاز عن العمل تماما أو أن تختل طريقة عملها· والحال في الكائنات الحية جميعها وعلى رأسها الإنسان لا يكاد يختلف في شيء، لا من حيث الوظيفة ولا من حيث الأهمية·

ولو تسنى للبشر أن يقدروا على برمجة رقاقاتهم العضلية أو قلوبهم، بنفس المعادلات الرياضية أو النسق الكهربي أو بلغة البشر بنفس المعادلات الأخلاقية أو النسق الفكري، لأمكن إنتاج أجيال بشرية كاملة متماثلة في عواطفها وهمومها وآمالها وأفكارها وقناعاتها، ولكن البشر لم يكونوا آلات في يوم من الأيام، مهما أمطرتنا هوليود بهذيانها وتهيؤاتها، وبالتالي فإنهم لا يستطيعون برمجة قلوب بعضهم البعض برمجة كليّة، ولا بالوسائل التقنية مهما بلغت من التطور، وإلا لأصبح الإنسان الضعيف الساذج لعبة في يد أخيه الإنسان القوي الداهية يتلاعب بعواطفه وأفكاره وأحلامه·

ولكن البشر مع ذلك ليسوا في معزل من تأثيرات البرمجة الجزئية، إنهم مع صبيحة كل يوم من أيام هذه الحقبة من الزمن في صميم البرمجة أو بالأصح طوفان البرمجات الدينية والتربوية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها كثير، ومنها البرمجات المتطورة ومنها البدائية، ومنها البناءة ومنها الهدامة، ومنها المحلية ومنها الخارجية، ووراء كل نافذة منها تتجيّش إمكانات هائلة من البشر ومن أدوات البرمجة، أما البشر فمنهم المفكرون والدعاة والسياسيون والأدباء، ومنهم الدجالون والخرّاصون والمخرفون· وأما أدوات البرمجة فمنها وسائل غير مباشرة كوسائل الإعلام بأشكالها والخطابة السياسية والدينية، ومنها الوسائل المباشرة كالأحداث السياسية والطبيعية أو كخنق الرأي وكبت الحريات والإغراء المادي، ومنها الأكثر مباشرة ووحشية كالتعذيب الجسدي واستخدام التقنية لغسل الأدمغة أو بالأصح إعادة صياغة البرمجة السابقة·

في هذه المعمعة التي لا تهدأ من الأقوال والمواقف والأفعال وردود الأفعال، تتبرمج قلوب البشر أو تعاد برمجتها لاشعوريا مع كل ثانية تمضي من أعمارهم كل بحسب درجة التطور الحضاري للبيئات التي يتواصل معها، والمستوى التعليمي والاقتصادي والاجتماعي الذي ينتمي إليه، وبحسب درجة استغراقه النفسي والعاطفي في ميوله وانطباعاته المادية أو الروحية·

هذا المعمل البرمجي، هو نفسه الذي خضع له بنو إسرائيل وهم يعايشون آيات الله ومعجزاته، ولكن طبيعة استجابتهم جاءت بعيدة عن الفرضيات والبدهيات التي تقوم عليها استجابة الإنسان السويّ، حتى أخبرهم الله بخلل رقاقاتهم أو بآفة قلوبهم، فقال لهم: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك" أي بعدما أُخضعت للبرمجة الإصلاحية أو الترميمية الإلهية إثر عقود من الزمن رزحت فيها للبرمجة التخريبية أو الهدمية الفرعونية، ورغم ذلك كانت النتيجة عكسية، "فهي كالحجارة أو أشد قسوة" أي أن الحجارة ليست أشد الأشياء قسوة، والرقاقات السيليكونية ومن بعدها الكربونية ليست أشد الأشياء قسوة، بل القلوب المريضة والضمائر الميتة هي أشد قسوة منها، لأن الحجارة ذات القسوة الشكلية أو الظاهرية، تخفي في حقيقتها الكثير من الخيرية والعطاء الذين يقول الله عنهما: "وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشّقق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله ··" (الآية 74- سورة البقرة)· من هذا التقرير الرباني المفعم بالنورانية والهداية، نستدل إلى أن القلوب ليست بذات قسوة واحدة، إنه يخبرنا عن عدة ضروب من القساوات·

توجد إذاً قلوب تملؤها القسوة الفكرية (الإيديولوجية) والروحية، قلوب استمدت قسوتها من جمودها على قناعاتها المتأسسة على أرضيات شديدة الهشاشة والملوحة، ومن تقوقعها داخل الأفكار والأهواء والتعاليم التي تؤجج عدوانيتها وتزيد من ضبابية بصيرتها، ومن فك ارتباطها بعناصر الحياة على فطرتها إلا من الرغبة في إيذائها أو تدميرها، لدرجة تبلغ حد إيقاد نيران الحروب عليها؛ فهي قلوب لا تميّز بين الألوان ناهيك عن أن ترى الألوان أو ترى الخطوط الفاصلة بينها، اللون الوحيد الذي تراه وتستمتع به هو الرمادي، لأنه لون الرماد الذي ينتج عن احتراق الأشياء وعلامة دمار الأشياء وموتها وانتهاء علاقتها بالوجود، وهذه مقدرة تتبرأ حتى الحجارة منها، لأنها تتأثر وتتجاوب وتبدأ في تغيير سلوكها لتتحول من قسوتها الظاهرية وسكونها الشكلي بالتعبير عن حقيقتها، فالحجارة تهبط من علوّها المغرور وتتشقق بعد صلابتها القاسية وتتفجر بعد جمودها الممل·

أما المملوءة بالقسوة الاجتماعية، فهي القلوب التي لا تستشعر نبض الإنسان، ولا تصغي لأنين معاناته، ولا تبصر البؤس وهو يفترس كرامته، بل إنها بالأحقاد والكراهية ودوافع الانتقام التي تغص بها تتنصل من كل الروابط والوشائج الإنسانية، وبدلا من أن يكون أصحاب هذه القلوب أفرادا من جماعة على سطح سفينة، فإن كل واحد منهم يفضل أن يكون وحيدا في جوف قاربه؛ لأنه لا يستطيع الانسلاخ من نرجسيته وعبوديته للأنا في أبشع صورها، وقد يستغل الجماعة بركوب السفينة معهم، ولكنه يتحين أول فرصة سانحة ليتخلى عنهم أو لينسلخ من انتمائه إليهم؛ دون أن يخجل من رائحة النتن التي تفوح من هذه القسوة والخيانة والاستغلالية؛ بخلاف السلوك الاجتماعي للحجارة عند تشققها، وهي تتفاعل مع بعضها في عمل جماعي متناغم حتى يخرج منها الماء الذي لا تستفيد هي منه، بل يستفيد منه الآخرون، في صورة نادرة للتضحية والإيثار والتسامح، ولاحظ التعبير الرباني باستخدام صيغة ضمير الفاعل الغائب المفرد (يشّقق) مع أنه عمل جماعي، إبرازا لمشهد التآلف والالتفاف والعمل بروح الفريق للجنود المجهولين في مواجهة التحديات·

ثم إن من القلوب ما يمتلئ قسوة مالية واقتصادية، فلا ترى في المال إلا بريق التسلط والشهرة والوصولية، ولهذا لا يوقف لهاثها وسعارها لجمعه والاستحواذ عليه لا عائق من قانون ولا وازع من خلق أو شرف، وإذا أنفقت واستهلكت فالمال هو وسيلتها للولوغ في الشهوات والملذات الذاتية الرخيصة وحياة الترف والبذخ بالتبذير والإسراف، أو بالتقتير والشحّ حتى لا تجد الابتسامة طريقها إلى شفاه المحرومين، أما إذا ادخرت أو استثمرت فإنها تفرّ بملايينها وملياراتها إلى أقاصي البقاع وإلى الاقتصادات الأخرى من أجل "دويليرات" إضافية لا تسمن ولا تغني من جوع، وتتغافل عن مئات المنافع والمكاسب التي كان مجتمعها سيجنيها باستثمار ذلك المال أو ادخاره فيه· إنها منتهى القسوة التي لا تقدر حتى الحجارة على مجاراة تلك القلوب عليها، لأن الحجارة تتفجر بالأنهار، والأنهار بطبيعتها تجري، حتى إذا ما روت ما حولها انتقلت إلى البقعة التي بعدها، ولكنها لا تطير في الجو آلاف الأميال تاركة تراب أرضها يئن من مرارة العيش·

أما البشر المملوءة قلوبهم قسوة سلوكية وأخلاقية، فأصحابها منتفخون كالبالونات، تبدو كبيرة وعالية، أعلى من المبادئ والقوانين والناس وسائر الأشياء، حتى ان من تهمهم المظاهر دون السرائر ينخدعون وينبهرون بهم، وفي غمرة غرورهم وتعاليهم المزيف يتناسى أصحاب هذه القلوب أنهم ليسوا سوى قليل من الهواء أو الغاز الذي لا وزن له في الحقيقة، وأن أصغر ثقب يتعرضون له سيعرّي حقيقتهم التافهة· ولو قارنوا سلوكهم بسلوك الحجارة لاتضح لهم البون الشاسع، فبرغم حجم الحجارة الهائل واحتوائها على الثروات الطبيعية ووزنها بآلاف الأطنان، إلا أنها تتواضع وتتصاغر في سلوك زاخر بالمعاني النبيلة، فهي تتفجر لا غيظا وغلا على من حولها كما هو شأن القلوب القاسية، بل بالأنهار والمياه والحياة والعطاء، كما أن الحجارة تهبط من مكانها المرتفع لا لتدك من تحتها غرورا وتكبرا وتعاليا، بل خشية وتصاغرا ورهبة أمام عظمة الله، إنها خشية متألقة، لأنها خالصة لملك الملوك وسيد الوجود، لا خشية من أحد مهما بلغ سلطانه وسطوته ونفوذه، ولا خشية على فوات المصالح والأطماع ولو كانت على حساب بيع الكرامة والأرض والدين والعِرض·

* كاتب إماراتي

�����
   

استجوابات قد لا تكتمل:
د.عبدالمحسن يوسف جمال
إحنا ما عندنا مشكلة:
على محمود خاجه
"تخاريف صيف":
المحامي بسام عبدالرحمن العسعوسي
بس!!؟:
د. بهيجة بهبهاني
فاقد الشيء لا يعطيه:
فيصل عبدالله عبدالنبي
سمو الرئيس...
الإصلاح ثم الإصلاح:
محمد بو شهري
التقرير الفاضح والتنفيذ الواضح:
أحمد سعود المطرود
الحروب (الهلالية).. :
الدكتور محمد سلمان العبودي
ترشيد أم تبديد؟!:
المهندس محمد فهد الظفيري
إسرائيل إلى زوال!!:
عبدالله عيسى الموسوي
الحملة الإيمانية وآليّة الانتحار الجماعي:
حسن حمود الفرطوسي*
رقاقة أشد قسوة من الحجر:
عبد العزيز خليل المطوع
بوتين وبوش.... المصلحة أولاً:
د. محمد عبدالله المطوع