كان غزو الكويت عام 1990 هو المفتاح الحقيقي لسقوط المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي "سابقا" ولم يكن صدام يدرك مدى تأثير فعلته الحمقاء تلك في تغيير خارطة العالم السياسية وتغيير طبيعة وتوجهات الصراع، حتى جاء غورباتشوف بأطروحته الشهيرة الـ "بيروسترويكا" لتكون آخر مسمار يدق في نعش التوازن الدولي ابان الحرب الباردة ·
الشيء الوحيد الذي أدركه صدام من خلال تلك المغامرة البائسة هو أن ورقته قد احترقت وانقضى الأمر وان العراقيين لم تعد لديهم الرغبة بوجوده على رأس السلطة خصوصاً بعد انتفاضة آذار/مارس عام 1991 التي أعقبت غزو الكويت وكذلك لم تعد أمريكا ودول الغرب راغبة في بقائه لفترة أبعد من ذلك وان مغامرته الطائشة في الكويت سوف لن تمر مرور الكرام كمغامراته السابقة·
لذا فقد اتخذ صدام تدابيره الانتقامية التي قدّر لها أن تصيب هدفها بدقة - كما هي طبيعة المرامي الشريرة دائما - وأن تستهدف الجميع، فكانت أشبه ما تكون بعملية انتحار جماعي، ربما كانت تلك التدابير هي من نصح بعض المقربين له والذين يدركون أن التيارات السياسية الدينية هي التي ستكون القطب البديل عن المعسكر الاشتراكي بعد انهياره، في صراع المرحلة المقبلة، أو ربما كانت من بنات افكاره·
تدابيره الانتقامية تلك لا تعدو عن كونها تغييرا في أقطاب معادلة الصراع، فقوى الاسلام السياسي التي كان قد حاربها من قبل بعنف لا شبيه له، أصبحت هي ذاتها سلاحه المدمر الذي هو أكثر خطورة من كل أسلحة الدمار الشامل التي انشغل بها الغرب وفرق التفتيش الدولية· فكل ما فعله هو اقامة الحملة الايمانية التي استقطبت شرائح واسعة من المجتمع العراقي ومن طبقات مختلفة، لاسيما انها تزامنت مع ظروف الحصار الاقتصادي الذي أربك نمطية الحياة في كل جوانبها وجعل الطبيب والمهندس والاستاذ الجامعي والفنان والرياضي ينساقون بطريقة عمياء وراء تلك الحملة·
كان الهدف من تلك الحملة هو تهيئة أسوأ نموذج لقوى الاسلام السياسي وهو النموذج المتطرف المتمثل بالمد الوهابي المتعاطف مع القاعدة كنموذج سني ومد التيار الصدري كنموذج شيعي ناقم على مرجعيته الدينية نتيجة الفجوة التي احدثها الحصار الاقتصادي بين المرجعية الشيعية النائمة على كنوز الخمس والزكاة وبين المجتمع الشيعي المتضور جوعا·
لقد أفرزت الحملة الايمانية نتائج أكبر من طموح القائمين عليها الى الدرجة التي لم يكن بوسعهم السيطرة عليها في نهاية المطاف، فكانت هي ذاتها أداة القضاء عليهم كما حدث مع أنور السادات وتجربته مع الاخوان المسلمين في مصر، وكما حدث مع امريكا وتجربتهم مع تنظيم القاعدة في فترة الصراع الافغاني الروسي، وكما حدث مع الشعب العراقي حين تعاطف مع الاسلاميين وها هو اليوم يجني ثمار ذلك التعاطف على شكل مفخخات واغتيالات وقتل مجاني· وكما هو مصير كل من يضع يده بيد قوى الاسلام السياسي·
وحقيقة الأمر أن الحملة الايمانية لم يكن صدام هو قائدها الأوحد ولم يكن عراقيو الداخل هم ضحاياها فقط انما شملت عراقيي الخارج أيضاً الذين هم في معظمهم ينتمون الى الطائفة الشيعية وقد بادر اسلاميو الخارج "حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الاسلامية" بتنفيذ الحملة في الخارج نيابة عن صدام، من خلال مساجدهم وحسينياتهم وجمعياتهم المنتشرة في كل بلدان المهجر· وهذا هو سرّ التشابه في السلوك والرؤى السياسية المعادية للتغيير باتجاه الديمقراطية والليبرالية في العراق بين اسلاميي الخارج واسلاميي الداخل·
لقد تمكن الاسلاميون وعلى مدى أربع سنوات من عرقلة مشروع التغيير من خلال انشطارهم الى مستويات متعددة ومتفاوتة في تبني العنف "المقدس" كوسيلة مثلى لانتزاع السلطة، بدءا من الأعنف وهو تنظيم القاعدة ثم الى الأقل عنفا وصولا الى اقلّهم عنفاً وهو حزب الدعوة الذي تصدّر الحكم معلنا إيمانه بالعملية الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة ولكنه في نفس الوقت يعتمد اعتمادا كليا في استراتيجيته على الكيانات الاسلامية المسلحة التي لا تؤمن الا بالعنف للوصول الى السلطة التي هي نفسها هدف "مقدس" بالنسبة لهم وليست وسيلة لإدارة حياة شعوبهم ·
الإسلاميون بشقيهم الشيعي والسني لا يؤمنون بالديمقراطية ولا يؤمنون بكل المفاهيم التي يأتي بها الغرب "الكافر" ولكنهم يعتبرون أنفسهم في ظل واقع موضوعي يحتم عليهم المراوغة والمماطلة وإنهم في انتظار الفرصة الملائمة لتحقيق حلمهم "المقدس" في إقامة دولتهم الإسلامية وهذا الحلم ليس حلما خفيا ولا يجدون حرجا في الاعلان عنه في ندواتهم وتجمعاتهم المحلية، وقد يصل بهم الأمر أحيانا الى إعلان ذلك الحلم حتى الى وسائل الاعلام، كما جاء على لسان رئيس جبهة التوافق، المحسوبة على الحركات الاسلامية السنية، عدنان الدليمي في لقاء له مع جريدة (الجريدة) الكويتية الصادرة في الخامس من يوليو 2007 أثناء زيارته الى دولة الكويت حيث قال "بحسرة" في ردّه على سؤال الصحافية إيمان حسين، الآتي والذي سأورده تماما كما جاء في الجريدة "انا لا أتوقع للعراق أن تقوم على أرضه حكومة دينية على الأقل خلال الأعوام القليلة القادمة، ولا يوجد في الاسلام حكم ديني بل هو حكم مذهبي، ومقولة الفصل ما بين الدين والسياسة هي مقولة مغلوطة وخاطئة، الاسلام يجب أن يسيطر على كل شيء في البلاد" هذه هي المماطلة والازدواجية في المعايير وكل ذلك على حساب أمن واستقرار ودماء هذا الشعب المستباح·
وبمثل هذا المنطق نراهم يرفعون راية الديمقراطية وحقوق الانسان أمام الأمريكان بينما عمليات الإرهاب والتهجير والتصفيات الجسدية التي تطال الوطنيين الليبراليين والكفاءات العراقية والمثقفين قائمة على قدم وساق· بل إن هناك أساليب غير مباشرة في التصفيات الجسدية التي تطال حتى جنود وشرطة الحكومة نفسها من خلال زجهم بامكانات تسليحية ضعيفة في معارك خاسرة مع ميليشيات وتنظيمات مدربة تدريباً جيداً وتمتلك أعتدة وأسلحة أكثر تطورا من أسلحتهم، وبذلك تكون الكفة الراجحة والوجود القوي في الشارع العراقي لمصلحة تلك التنظيمات وقد وصل الاستخفاف بارواح أولئك الجنود والشرطة الى الدرجة التي تمتنع فيها المستشفيات عن معالجة الجرحى منهم ويتركونهم ينزفون في العراء حتى الموت كما حدث في قضاء سوق الشيوخ التابع لمحافظة الناصرية في يونيو الماضي !
أخيرا، أقول الى كل الواهمين الذين ما زالوا يظنون أن قوى الاسلام السياسي ستضع حجرا على حجر وتبني شيئا في هذا البلد أو في أي بلد آخر، اقول لهم إنكم ترتكبون جرماً بحق أنفسكم وبحق ضمائركم وبحق أهلكم، لأن هذه القوى لا تطيق رؤية النور ولا تطيق أن ترى الشعوب مستقرة وآمنة، إنهم ظلاميون وقد ترسبت الظلمة في أعماق سحيقة من قلوبهم وعقولهم وكل أفكارهم لا تتخطى حدود سراديبهم المظلمة والدبقة·
*كاتب عراقي
alfartosy@hotmail.com |