جميلة هذه الالتفاتة الى التعليم ومهمة جدا، لأنها قد أتت أخيرا، حتى لو كانت قد تأخرت كثيرا، فحين يبدأ صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي جولاته الميدانية التفقدية بزيارة عدد من المدارس في نقطة قصية من الدولة فإن ذلك يمثل قمة الاهتمام بالتعليم، وحين يعد سموه بمتابعة معوقات المسيرة التعليمية شخصيا والعمل على حلها فإن ذلك يمثل ضمانة أكيدة بأن القضاء على هذه المعوقات أصبح وشيكا وأن حل مشكلات التعليم أصبح أولوية لدى قيادات الدولة العليا، خاصة مع الخطوات التي اتخذها وزير التربية والتعليم الدكتور حنيف حسن بعد الجولة، والإشارات التي أرسلها للعاملين في الميدان التربوي، والزيارات الميدانية التي بدأها لمدارس الدولة·
الحديث عن التعليم ذو شجون كثيرة وشعب متعددة، لكن خاطرا يلح ونحن نتابع ما يدور في ميدان التربية والتعليم، إذ ليس من باب الصدفة المحضة أن تسبق التربية التعليم في كل أسماء الوزارات المنوط بها مهمة القيام بالعملية التعليمية وتنظيمها في كل الدول العربية تقريبا، لكن وقع الاسم أخذ لدينا فيما يبدو طابعا نمطيا جعلنا لا ننتبه الى ترتيب الأولويات أو إيلائها الاهتمام الذي تستحقه حسب ورودها· يحدث هذا عندما نتجاوز التربية مركزين على التعليم في كل أطروحاتنا التي تتناول هذا القطاع بالبحث الذي يصل أحيانا الى حد التشريح، ربما لما للتعليم بجوانبه الإيجابية والسلبية من مردود مادي ملموس في حياتنا، الى جانب المردود المعنوي بالطبع، بينما ينحصر مردود التربية في الجانب المعنوي أو الأخلاقي، في زمن تراجعت فيه القيم المعنوية والأخلاقية أمام زحف المادة وطغيانها على كل شؤون الحياة، حتى غدا من الطبيعي أن تتقدم أخبار البورصة بألوانها الخضراء والحمراء على خبر طالب يضرب مدرسه، أو مجموعة من الطلبة تتجمع خلف سور مدرستها للتدخين هربا من دروسها، أو عصابة من الأحداث تنطلق من داخل أسوار المدرسة·
يلفت النظر في كل ما يكتب أو يدور من حوارات عبر وسائل الإعلام المختلفة حول "التربية والتعليم" أن النقاش والاهتمام منصب على جانب واحد من القضية هو جانب التعليم الذي لا ينكر أحد أهميته، بينما جانب التربية مغيب أو متجاهل بشكل يكاد يكون كليا، مع أنه مهم جدا، بل ربما فاقت أهميته جانب التعليم الذي يمكن تدارك القصور فيه لأن التعليم متاح وقابل للتحصيل في كل الأعمار إذا ما اختلت عملية تحصيله في مرحلة ما من مراحل العمر، أما التربية فإن التقصير فيها خلال مراحل العمر الأولى عواقبه وخيمة لأنه يغير مسار الحياة تماما، فمتى ما اختل ميزانها انحرف مسار حياة الطالب وتشكلت شخصيته على نحو لا يخدم مصلحته الذاتية، ولا مصلحة الأسرة التي هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، ولا مصلحة الوطن الذي هو أحوج ما يكون الى أفراد صالحين أسوياء ينتمون الى بيئة تربوية سليمة·
وإذا ما اتفقنا على تدني مخرجات التعليم العام الذي تحدث عن أسبابه معالي وزير التربية والتعليم قبل توليه الوزارة، فإن الاتفاق على تراجع التربية أيضا يدفعنا الى البحث عن الأسباب التي أدت الى ما وصلت إليه مدارسنا الحكومية والخاصة على حد سواء من تدني مستوى التربية فيها بشكل عام، يتمثل هذا التدني في مظاهر عدة، منها تفشي بعض الظواهر السلبية كظاهرة تدخين الطلبة التي اعتبرها الوزير في حديث مع البث المباشر بإذاعة دبي أمرا خطيرا ووعد بإعطائها أولوية كبرى، قائلا إن السكوت عن حالات التدخين سيشجع الآخرين، مؤكدا أن الوزارة ستأخذ بالحلول الكفيلة بعلاج هذا المرض، أما الظاهرة الأخطر فهي تكرر حوادث اعتداء بعض الطلبة على مدرسيهم، الأمر الذي يضع هيبة المعلم والمدرسة معا على المحك، فهل تعرضت هذه الهيبة لهزة تدعونا الى إيلائها الاهتمام المطلوب كي نعيد للمدرسة دورها التربوي بالتوازي مع الدور التعليمي الذي تسلط الأضواء عليه هذه الأيام، ويجد من الاهتمام ما يجده للارتقاء به الى المستويات العالمية؟
نقول: نعم، لأن المعلم فقد الكثير من هيبته عندما لم يجد الاهتمام والتقدير الذي يستحقه ماديا ومعنويا، وعندما تم وضعه في درجة وظيفية لا تليق بمكانته كمرب للأجيال وقدوة لشريحة كبيرة ومهمة من المجتمع، هي شريحة الطلبة الذين يمثلون المستقبل، بكل ما لهذه الكلمة من معان يضيق عن حصرها المجال، وقد فقد المعلم جانبا كبيرا من هيبته عندما أصبحت فئة من المعلمين أجراء عند الطلبة وأولياء أمورهم، مع الاعتذار لاستخدام هذا التعبير، لكن تفشي ظاهرة الدروس الخصوصية التي اضطرهم إليها ضعف مواردهم المالية، دفع بكثير من المعلمين الى الذهاب بأرجلهم الى منازل الطلبة مقابل مبالغ من المال صارت تمثل جزءا من دخولهم، كي يسدوا العجز في الرواتب التي يتقاضونها من الحكومة أو القطاع الخاص، مما غدا يشكل عوامل ضغط على كرامتهم وهيبتهم التي لم تعد كما كانت يوم أن كاد المعلم أن يكون رسولا، كما اهتزت صورة المعلم كثيرا عندما وجد نفسه يخرج من المدرسة في نهاية اليوم الدراسي ليستقل سيارته المتواضعة أو يقف منتظرا سيارة أجرة بينما يقتني طلبته أحدث أنواع السيارات وأغلاها، ويغيرون كل شهر هواتفهم النقالة، فماذا بقي من هيبة المعلمين واحترامهم، وما السبيل الى استعادة تلك الهيبة المفقودة؟
إن أول الطرق الى إصلاح التعليم هو إصلاح التربية، وأول الطرق الى إصلاح التربية هو "إعادة الاعتبار للمدرسين والمدرسات، وترسيخ مكانتهم في المجتمع، وصون كرامتهم واحترامهم الذي يستحقونه من الحكومة والمجتمع" كما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد داعيا الى إعطاء الأولوية لهذه الشريحة الفاضلة من أبناء وبنات مجتمعنا لتوفير العيش الكريم والآمن لهم ولأسرهم، بهذا يكون المعلم هو المدخل الأساسي لإصلاح التعليم، لأنه هو الوسيلة التي ينتقل من خلالها العلم الى الطالب، ومتى ما كانت هذه الوسيلة تعاني خللا وضغطا نفسيا قبل أن يكون مهنيا، فإنها لا شك ستكون موصلا رديئا ووسيطا سيئا لنقل العلم الى الطالب·
لذلك نكرر القول: إذا أردتم إصلاح التعليم فابدؤوا بإصلاح التربية، لأن التربية هي البوابة الرئيسية للتعليم، ولأن الطالب هو الطرف المستقبل في العملية التعليمية فإن إعداده لاستقبال ما سيتلقاه من علم لا يقل أهمية عن الاعتناء بالمكان الذي سيتلقى فيه هذا العلم، ولا عن الوسائل التي سيتلقى من خلالها·
إن المدرسة بيئة متكاملة متعددة الأطراف، وما لم تكن هذه البيئة صحيحة شكلا ومضمونا فإن كل محاولات إصلاح التعليم ستذهب أدراج الرياح، وسنخسر التربية والتعليم معا، فلا تفوتوا فرصة إصلاح التربية جنبا الى جنب مع إصلاح التعليم أيها الأمناء على التربية والتعليم معا·
* كاتب إماراتي
aliobaid2000@hotmail.com |