رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 16 مايو 2007
العدد 1774

الديمقراطية الفرنسية والهوية الوطنية
علي عبيد
aliobaid2000@hotmail.com

عندما يصبح هذا المقال بين أيديكم تكون الجولة الثانية من الانتخابات الفرنسية قد حسمت السباق نحو كرسي الرئاسة واختار الناخبون الفرنسيون رئيسهم أو رئيستهم للفترة الرئاسية المقبلة، ولا يتبقى لنا إلا الدروس التي يمكن أن نستخلصها من الانتخابات في الدول ذات الديمقراطيات العريقة بشكل عام، ومن فرنسا بشكل خاص·

ولعل أول هذه الدروس درس الديمقراطية نفسه· وهو الدرس الذي لعبت فيه فرنسا دور البطولة من خلال الثورة الفرنسية التي لم تكن مرحلة تحولات سياسية واجتماعية كبرى في التاريخ السياسي والثقافي لفرنسا فقط، وإنما لأوروبا كلها· تلك الثورة التي عملت على إلغاء الملكية المطلقة والامتيازات الإقطاعية للطبقة الأرستقراطية والنفوذ الديني الكاثوليكي، وأدت إلى خلق تغييرات جذرية لصالح التنوير عبر إرساء الديمقراطية وحقوق الشعب والمواطنة مع بروز نظرية العقد الاجتماعي لـ"جان جاك روسو" منظِّر الثورة وفيلسوفها، ليشكل هذا الحدث بعد ذلك تحولا مهما في تاريخ أوروبا، ويترك نتائجه الكبيرة وأثره على الدول والشعوب الأوروبية·

أما أهم ما يمكن أن نستخلصه من هذا الدرس فهو أنه لا علاقة  للديمقراطية بالجينات وعلم الوراثة بقدر ما هي ذات صلة وثيقة بالحراك الوطني والفكر والممارسة الشعبية، لأن فترة ما قبل الثورة الفرنسية هي التي أدت إلى انبعاثها، وهي فترة ساد فيها تسلط الكنيسة وتدخلها في حياة الناس ومحاربتها للعلوم التجريبية ودعمها للنظام الإقطاعي الذي كانت تسيطر فيه أقلية من النبلاء ذوي الامتيازات الموروثة من القرون الوسطى على بقية عناصر المجتمع المكوَّنة من التجار وأصحاب المصانع والفلاحين البسطاء، إلى الدرجة التي لم تعد معها الطبقة البرجوازية تستطيع تحمُّل الجمود الذي لحق بالمجتمع وسيطرة النبلاء عليه وضعف شخصية الملك "لويس السادس عشر" وعجزه عن تفهم تناقضات المجتمع الفرنسي، خاصة بعد أن توالت على فرنسا مواسم فلاحية رديئة أثرت بشكل مباشر على الإنتاج الزراعي فانتشرت المجاعة، وضاقت سبل العيش بالفلاحين، دون أن تبدر من النبلاء بادرة تنازل عن امتيازاتهم الفيودالية، الأمر الذي جر حنق الجماهير عليهم، إضافة إلى خواء الخزينة الملكية· ومع ذلك فليس حتميا أن تمر كل الشعوب بالظروف نفسها التي مرت بها فرنسا كي تقتنع بالفكر الديمقراطي وضرورة انتهاجه للوصول إلى علاقة مُثلى بين السلطة والشعب، لأن وظيفة التاريخ ليس مجرد التسجيل فقط وإنما تقديم الدروس والعبر لمن شاء أن يتعلم ويعتبر·

هذا الدرس رغم وضوحه إلا أنه صعب التطبيق في مجتمعات مازالت تخضع لأنظمة حكم متسلطة لا ترى في شعوبها الأهلية التي تمكنها من ممارسة هذا الحق ولا تسعى إلى تأهيلها لهذه الممارسة، مستمتعة بالتفرد الذي تمارسه في حكم الأوطان وإدارة شؤون شعوبها التي تعتقد أنها ما زالت قاصرة عن ممارسة هذا الحق· وهو تفرد يضع في يدها الحق الكامل في اتخاذ القرارات وتفصيل القوانين وتطبيقها، دون أن يكون للمواطن حق في المناقشة أو الاعتراض أو حتى إبداء الرأي بأي شكل من الأشكال·

أما الدرس الثاني الذي يمكن استخلاصه من هذه الانتخابات فهو درس "الهوية الوطنية" التي عزف مرشح حزب "الاتحاد من أجل حركة شعبية" اليميني "نيكولا ساركوزي" على وترها في برنامجه الانتخابي، ملامسا الأوتار الحساسة في تطلعات المجتمع الفرنسي التي تركزت في معالجة شؤون الغرباء والهجرة غير الشرعية، رافعا شعاراتٍ ناريةً ضد الهجرة غير الشرعية والعنف القادم من الأجانب والغرباء كما يرى حزبه، واعداً بتصفية أمور الأجانب غير الشرعيين، وترتيب أوضاع الشرعيين منهم، وتحديد شروط الهجرة وتنظيم مساراتها·

هذا الخطاب يقودنا مباشرة إلى "جان ماري لوبان" رئيس ومؤسس حزب "الجبهة الوطنية" المنحاز إلى أقصى اليمين، وهو الذي اتهم "ساركوزي" بسرقة خطابه الانتخابي العام بشأن الأجانب، بعد أن ظل يعلن معاداته الصريحة للأجانب والفرنسيين من أصول أجنبية، ويدعو إلى مكافحة الهجرة وإعطاء الأفضلية للفرنسيين الأصليين· هذا الخط الذي يقترب من حدوده "ساركوزي" منذ أن كان وزيرا للداخلية حين وقف وراء سن قانون صدر عام 2006 يشدد إجراءات دخول الأجانب إلى فرنسا وشروط الإقامة فيها· الأمر الذي دعا رابطة حقوق الإنسان الفرنسية - في تقريرها الصادر هذا العام حول وضع حقوق الإنسان في فرنسا - إلى تحميله مسؤولية التدهور المتواصل للحريات، مُدينةً السياسة التشريعية ذات الطابع الأمني التي طغت عليها الكراهية للأجانب بغية استمالة أصوات اليمين المتطرف التي تحولت إلى "ساركوزي" بعد هزيمة زعيمها "لوبان" في المرحلة الأولى من الانتخابات وحلوله في المركز الرابع بعد أن كان قطبا من قطبي المرحلة النهائية في انتخابات عام 2002م·

ساركوزي - الذي ينحدر هو نفسه من أصول مجرية - يرى وفريقه أن الهجرة أصبحت تشكل تهديدا للهوية الفرنسية، وهو ما دعاه إلى الإعلان عن نيته استحداث وزارة للهجرة والهوية الوطنية في حال فوزه في انتخابات الرئاسة، الأمر الذي يقلق المهاجرين ودُعاة حقوق الإنسان في فرنسا، رغم أن "ساركوزي" وفريقه يقدمون القرائن على خوفهم من ضياع الهوية الوطنية مستشهدين بوضع اللغة الفرنسية في الضواحي، حيث يقيم المهاجرون ويتكلمون لغة فرنسية هجينة· يرى الفرنسيون الأصليون المعروفون بحساسيتهم العالية تجاه لغتهم أنها تشكل تهديدا للغة التي يعتزون بها ويحيطونها بسياج من الحماية تحسدها عليه كل لغات العالم· كما يقدمون دليلا آخر على خوفهم من عملية الهجرة غير الشرعية متمثلا في الاضطرابات  التي شهدتها ضواحي المهاجرين بالمدن الفرنسية أواخر عام 2005م، تلك التي استغلها أنصار اليمين المتطرف لطرح القضية من منظور عنصري، بينما استغلها اليمين المعتدل لطرحها من منظور وطني، رابطا بين الأمن والهوية الوطنية في قضية وجدت لها مناخا مناسبا كي تكون واحدة من البرامج الانتخابية التي رجحت كفة ساركوزي في جميع مراحل المعركة الانتخابية الفرنسية التي انجلى غبارها يوم أمس·

نعود فنقول: أيا كانت نتيجة هذه الانتخابات فإن الدروس التي يمكن أن تؤخذ منها جديرة بأن تجعل متابعتها أمرا يستحق الاهتمام من قِبَل المحرومين من تذوق طعم الديمقراطية وتنسم عبيرها، ومن قِبَل الخائفين على "هويتهم الوطنية" الساعين إلى المحافظة عليها، مهما تباعدت الأوطان، وتنوعت الأسباب، واختلفت الوسائل·

 

aliobaid4000@yahoo.com

�����
   

لبنات المجتمع الكبير:
د. لطيفة النجار
الثقل الخليجي مكوناته وتداعياته:
عبدالله محمد سعيد الملا
مشروع الورقة الرابحة:
سعاد المعجل
"مظفر النواب.. وتريات ليلية":
المحامي بسام عبدالرحمن العسعوسي
مفهوم الوطنية في ميزان العقل:
فهد راشد المطيري
الديمقراطية الفرنسية والهوية الوطنية:
علي عبيد
جمعيات النفع العام في شراك الاستبداد:
فيصل عبدالله عبدالنبي
زين يسوّي فيك الصقر:
على محمود خاجه
العجز الاكتواري وصندوق التنمية:
أحمد سعود المطرود
الإصلاح والشكوك:
المهندس محمد فهد الظفيري
دروس من تقرير (فينوغراد)(2):
عبدالله عيسى الموسوي
حرّاس المستقبل:
ياسر سعيد حارب
التفكير من أجل التغيير:
د. فاطمة البريكي
دولة الرجال العربية المتحدة! :
علي سويدان