"إن الذين يخشون النكتة ليست لهم ثقة كبيرة في قوتهم"
"بول فاليري"
محلاها العيشة اللاموبايلية!
- أغبط بشدة بعض الناس الذين يمارسون حياتهم اليومية بمنأى عن "الموبايل" والكمبيوتر والإنترنت، لأنهم وإن خسروا الفوائد الجمة الكثيرة لحضرة الموبايل·· إلا أنهم وفروا فلوسهم، ووقتهم وراحتهم النفسية·· وما الى ذلك· لعلني أنتمي الى الجيل الذي حظي أول مرة في الكويت بالموبايل، لأول وهلة فرحت به، فثمة جهاز اتصال يضاهي "تاكسي الغرام" إياه·· الذي "يقرب البعيد" ويزيد عليه أنه يصلك بمن تريد، في أي مكان، وأي زمان·
بعد أشهر عدة: شعرت أنه يرافقني كما ظلي· يقتحم حياتي الخاصة· يشهر وجودي جهارا نهارا لكل من هب ودب! باختصار، شعرت بالاختناق من شدة حضوره في حياتي اليومية ورميته في الدرج، ونسيته، ولم أتذكره إلا حين جاءتني أم البنين بفاتورة المكالمات المحلية والدولية! وحين رأت هلعي من الحساب الذي تطالبني به الشركة انتهزت الفرصة وقالت: ما رأيك في أن أسدد الفاتورة ذات الرقم الفلكي بالنسبة لواحد متقاعد يعيش على "حديدة" مؤسسة التأمينات الاجتماعية·· ومن ثم يكون الموبايل بحوزتي لاستخدمه بدلا منك؟! وبالطبع وافقت فورا على عرضها السخي· أثمة بعل في الدنيا يرفض أن تسدد بعلته ديونه؟! صحيح أن الرجال "قوامون" على النساء، لكننا الآن في زمن المساواة بين حواء وآدم، ولا غضاضة في أن تسدد ديونه·· ويا حبذا لو تكفلت بدفع مصاريف البيت كلها، وتركت لنا مهمة القوامة الشرفية الشكلية، كي لا تثلم رجولة البعل وذكوريته بسبة "سكانه مرته" تقوده كحمل وديع وتحركه كما الخاتم في خنصرها!
- الصديق الشاعر المعروف "أحمد فؤاد نجم" أنكى من "العبدلله" في علاقته مع "المحمول" كما يسمون التلفون النقال في مصر المحروسة·
فقد حظي هو الآخر بمحمول مجاني، أهدى إليه من مولى ورئيس مجلس إدارة شركة المحمول المصرية، لكن "أبو النجوم" يكره التملك وعبوديته، وهذا من حسن حظ الشركة، لأن صاحبنا أحد أقطاب الكلام في بر مصر·· فهو يمكن أن يتحدث في أي تلفون مدة ساعتين متصلتين دون انقطاع سوى أن يمج نفسا من السيجارة أو الشيشة!
فقد تكون الشركة منحته 5 ساعات مكالمات مجانية، لكنه سيسفحها في يوم وليلة على أقل تقدير!
ونحن الاثنان: نمثل حالة شاذة·· وبمعيتنا نفر قليل في هذا البلد وذاك·
حين جرت حرب "تحرير" العراق، وجدتني أستعير نقال أحد الأنجال، دون أن انتبه الى أنني سطوت على ذاكرته وصلاته وحياته الخاصة، فوجدته بنفسه يهدي الي "موبايلا"، ويعلمني كيفية كتابة رسالة موبايلية نصية·· وتلقيها، وإعادة إرسالها، وحين تواصلت مع الأصدقاء والأقارب والطفيليين، والذين "ضايقة خلوقهم"، اكتشفت عالما غريبا مدهشا من التواصل مع الناس فيه الخبر والنكتة، والنميمة، والمعلومة والدعاء، والشعر والحكمة والبلاغة، فضلا عن "بلاغة الشف" إياها والحاضرة يوميا في سياق الكثير من المكالمات·
في ثاني أيام تحرير العراق من نظام صدام·· قال لي الصديق "وليد خالد المسلم" القاص المعروف·· و"القاص في خمس مجموعات قصصية لا يعرف كيف يسوقها!" ما علينا!
قال صاحبنا: ما دمنا نتناول كل المسجات المتمحورة حول الحرب·· لم لا نجمعها في الكمبيوتر· حكمت باحثا وأستاذا جامعيا معنياً بعلم الاجتماع السياسي عن الفكرة، فراقت له جدا· وحبَّذ إنجازها، واقترح آلية عملية لتنفيذها، وهكذا وجدتني وسط المناخ الإخباري الذي عاشه الجميع أتحول الى حيوان عولمي مثل كل إنسان عربي يملك "شروى موبايل"·· سكند هاند·· مستعمل، وينتمي الى الأجيال الأولى من عشيرة الموبايل!
أحلف بالله ثلاثا، إن الزبال في قاهرة المعز، يهتف لي من تحت العمارة - وأنا بالدور العاشر والأخير - في عندك زبالة لا مؤاخذة؟! اللهم لا اعتراض، أليس الزبال آدميا وإنسانا؟! فكيف يمكن أن يكون كذلك من دون أن يكون المحمول في جيب جلابيته، ما علينا؟!
في جميع أيام حرب تحرير العراق من كل شيء· كان الفريق الموبايلي يقوم بجمع النكات والتعليقات الساخرة، والإشاعات المحبوكة المدروسة لتكون سلاحا نفسيا شديد الفاعلية!
الشاهد أنه في نهاية الحرب، كانت حصيلة الشباب ألفي نكتة ونيف! فضلا عن الأخبار المهمة ذات الصلة بالحرب· وهكذا صار بحوزة الشباب مرجع توثيقيا يرصد ويسجل نبض الشارع الخليجي بخاصة، والمصري بعامة حول كل شؤون وشجون هذه الحرب سلبا وإيجابا·
توثيق "المسجات" بكتاب
وبعد نهاية الحرب بأسبوعين، كان هناك ثمة كتاب توثيقي يرصد باليوم والساعة والدقيقة: كل نكتة "لعلع" بها الناس ضد "دونكوشية" "الصحاف" وزير إعلام نظام صدام، وشخصيته·· الكوميدراجية·· المثيرة للضحك الصافي حينا·· وضحك كالبكاء حينا آخر·· وبخاصة حين صار أضحوكة للعالم كله·· ربما لأنه وجد فيه نسخة من الإعلامي المصري الشهير·· أحمد سعيد نجم إذاعة صوت العرب·· وإعلام حرب 67 الموسومة - كذبا وبهتانا - بـ "النكسة" بينما هي هزيمة نكراء ما زلنا نعاني من آثارها المأساوية حتى الآن!
كان الكتاب شاملا لكل شاردة وواردة في متن المسجات المتبادلة بين الناس، إنه سيرة الحرب المكتوبة بالنكتة الحادة الساخرة السوداء، والرمادية، وكل ألوان الكوميديا·
وكل من قرأه ضحك كثيرا، وتأمل أكثر، وهرش شعر رأسه ومسد لحيته، وحك صلعته البهية· لكن - وآخ من لكن هذه، ثمة قنابل موقوتة، وألغام مدسوسة في سياق الكتاب، ثمة أسلحة دمار شامل لا تعني "الأمريكان" البتة، ولكنها قد تشعل حرائق، وتثير معارك تبز حرب "داحس والغبراء" وتفوقها خطرا وآثارا مأساوية!
وكانت ورطة مفجة، لأنها ستحجب الكتاب، ولن تنشره على الناس، نعم إن مضمونه تم نشره عبر الموبايلات - حيث لا رقيب، ولا مخفر، ولا قضاء، ولا خطورة على الحياة - إلخ، لكن نشره في كتاب، ونشره هنا وفي الأقطار العربية الخليجية بخاصة، ينطوي على مخاطر لا تحمد عقباها! حسبنا موعظة: ما حدث للزميلة "هداية سلطان السالم" رحمها الله، والحكمة ضالة المؤمن·· وبخاصة ذلك الذي ليس "بايع" حياته ويؤمن بأن الجبن - في هكذا حالة - هو سيد الأخلاق! ولكي يتعرف القارئ على مضمون الكتاب، والدوافع التي حرضت على "امتناع" أصحابه عن نشره، هذا إذا سمح بنشره هنا افتراضا! سأعرض - باختصار - لسيرته ومحتواه·
ثمة دار نشر لبنانية جريئة، كما هو دأب اللبنانيين، قبلت نشر الكتاب بقضة وقضيضة· أي دون حذف كلمة يتيمة منه· ولم تحفل بوجود أسماء معدي الكتاب ولا أولئك الذين دبجوا مقدمة وتوطئة وتعليقا حول الكتاب وهم (وليد المسلم، عيد الدويخ وأنا) قال الشباب للناشر· دعنا نفكر، ومرت ثلاث سنوات وهم ما زالوا يفكرون! وما زال الناشر بدوره يفكر: لِمَ التردد؟! وأحسب أن الشباب لن يسمحوا للكتاب بالنشر·· بينما لسان حالهم يقول: إن هذا الناشر اللبناني جريء حقا لكنه "خبل" لأنه سيكسب آلاف الدولارات من رواج الكتاب وانتشاره·· وقد يخسر حياته جراء النعرات الجاهلية التي تنخر في نسيج بعض عاداتنا الجاهلية المتحجرة!
وبحكم أني رئيس السن لفريق العمل الذي أنجز الكتاب بقيادة المايسترو ومولى المشروع وصاحبه "وليد المسلم" وجدتني أكتب مقدمة للكتاب كتبتها على مضض، تلبية لإلحاح "بو خالد" وقد اشترطت عليه أن تكون المقدمة هي المؤخرة يقرأها القارئ - إن شاء - بعد أن يفرغ من قراءة متن الكتاب· وهكذا كان·
الشاهد هو أني كتبت المقدمة على النحو التالي:
· من البدهيات المعروفة أن الإنسان - وحده - هو الحيوان الوحيد الضاحك الذي يضحك على الآخرين·· وعلى نفسه! فالضحك ظاهرة إنسانية ينفرد بها الإنسان عن غيره من الحيوانات، صحيح أن هناك بعض الشعوب تتميز بأن الحس الفكاهي لديها أشد حضورا، وأكثر غنى وتنوعا من غيرها من الشعوب·
والكتاب الذي نحن بصدده يضم بين طياته النكات والملَح، والتعليقات المرة الساخرة، والأدعية والأقوال المأثورة التي "لعلع" بها الكويتيون والخليجيون بخاصة، وكل العرب بعامة إبان الفترة التي استغرقتها الحرب خلال الفترة من 30 مارس الى 30 مايو 2003 حيث تداول الخليجيون، خلال هذه الفترة، ملايين المسجات الساخرة المعبرة عن لسان حالهم، بكل ما ينطوي عليه من مرارة وسعادة وشجن وأسى·· وغيرها من المشاعر والاستجابات الخارجة من رحم دراما حرب تحرير العراق من كل شيء! وسوف يلاحظ القارئ للكتاب (الذي أشك في أنه سوف يرى النور) أن هناك بعض الموضوعات والشخوص: قد استأثرت بكم من النكات اللاذعة، أكثر من غيرها، ومن هنا تجد أن شخصيات "صدام والصحاف ومنقاش ما غيره" قد حظيت بنسبة كبيرة من النكت والتعليقات اليومية المتواترة· والمؤسف: أن النكتة في حياتنا الاجتماعية شفاهية يستحيل كتابة ونشر الكثير منها، لأن "المكتوبجي" الاسم "الحركي" العثماني التركي لاسم الرقيب إبان الخلافة العثمانية سيئدها بمقصه!
وأجزم بأن كتاب "نبض الشارع المحمول" ينطوي على مادة دسمة وثرة للباحثين الراغبين في معرفة اتجاهات بوصلة الرأي العام ونبضه، فضلا عن سبر نفسيته وشخصيته، وفي تحليل مزاجه العام، ومعرفة رأيه ورؤيته للأحداث ووقائع الحرب، وكل ما كان يجري في العراق الشقيق "كرمى لتحريره" من نير نظام صدام الطاغية، وتكبيله بصدام أجنبي مستورد! |