من الأدبيات الليبرالية السائدة فكرا لدى الغرب احترام خيارات الشعوب والقبول بما يفرزه الصندوق الانتخابي واعتباره فرزا مقدسا يعبر عن إرادة المجتمع·· واحترام نتائجه ضرورة أخلاقية وحضارية لأنه يعبر عن احترام وقبول الآخر بغض النظر عن الاتجاه·· هذا ما فهمناه من الديمقراطية وهذا ما سوَّقته لنا المنظومة الغربية عبر وسائلها المختلفة والتي تعتبر حاضنة الأمم·
بداية استقبل العقل العربي هذه الثقافة بكثير من الريبة لأن النماذج الغربية المحفوظة بالذاكرة العربية لم تتطابق مع هذه المفاهيم وخاصة فيما يتعلق بقضية فلسطين ودعم نظم الاستبداد باعتبارها ضامنا مهما لمصالحه·· واعتبر هذه الثقافة وسيلة للسيطرة والابتزاز لفقدانها لأي مصداقية إضافة الى ما خلفته هذه السياسات من آثار سلبية على واقعنا وما زلنا نحصد نتائجها حتى الآن·· ولكن تمادي النظام العربي وغلوّه السلطوي وتملكه للأوطان تسلطاً أباح له التصرف وفق العرف المشرقي (من حكم بماله ماظلم)·· وهذه الإباحية دفعت الطيف النخبوي بمعظم ألوانه إلى البحث عن المخارج لهذا المأزق الوطني بعد استفحال التمادي فكانت الديمقراطية الأرضية الأكثر خصوبة لإزالة هذه الرواسب خدمة للمشروع الوطني والذي تبددت معاملة في ثقافة المزارع رغم ما اعتراها من تشويه وسوء استخدام وآخرها النموذج العراقي ولكننا لا نحمّلها المسؤولية لأنها إرث إنساني ولا تخضع لقانون الملكية بل هي مشروع إنساني لا ينتهي إلا بانتهاء الإنسان، حسب رأي الدكتور إمام عبدالفتاح إمام، ومن خلال هذه القناعة بدأت ورثة الإصلاح في داخل هذه النخب والقوى المعارضة لتحقيق النقلة النوعية المطلوبة للتغيير·· فجاءت برامجها ومشاريعها منسجمة الى حد كبير مع الخيار الديمقراطي وهذا ما مكنها من التوافق والإجماع على مشروع التغيير·· وعلى هذا الأساس بدأت الحراك وكان على أشده في مصر وفلسطين وكانت البوادر مشجعة وأثبتت الوقائع مقدرة الديمقراطية ولو بشيء من الشفافية على إحداث نقلة ما على طريق التغيير·· ولكن كيف إن توفرت الشفافية المطلوبة كما حدث في فلسطين؟! إنها بلا شك ستغير الخريطة ومجمل الأوضاع وهذا ما حصل بفوز حركة حماس الكاسح والذي عبر عن خيار الشعب الفلسطيني مما أزعج الدوائر الغربية ودعاها للتنكر لليبراليتها ورومانسية شعاراتها عن الحرية وحقوق الإنسان واحترام الآخر متوعدين بقطع شرايين الحياة عنهم عقابا على خيارهم·
بلا شك إن فوز حماس أعطى دفعا لثقافة المقاومة ووجه إنذارا قويا لمشاريع التسوية وقصاصات التهدئة والتي لم تجد نفعا منذ أوسلو وحتى الآن رغم أطنان الاتفاقات والتفاهمات وذلك لهشاشة جسد السلطة الفلسطينية المتعب من الفساد والذي تحول من جسد مقاوم الى دفتر مقاول مما شجع دوائر القرار في إسرائيل والغرب عموما على التعامل معه لقابليته للتجاوب مع خرائط الطرق المتتالية والتي صممت لتسكين الألم ولتسهيل قضم الأراضي وتهويدها وصولا الى نهاية الحل·· وهذا ما يفسر شدة الغضب الدولي من هذا الفوز إضافة الى خروج هذه الانتخابات عن القوالب المعدة للمنطقة،·· مما يوحي بأن هذه الدوائر ربما تعيد النظر بمسألة الديمقراطية والتي لم تفرز المقاسات المطلوبة باعتبار (أن الشعوب المتخلفة لم تبلغ سن الرشد بعد والاستعباد أفضل وسيلة لحكمها حتى تصلح نفسها) حسب رأي الفيلسوف جون ستيوارت مل·
يخطىء من يعتقد بأن أمتنا لا تملك الوعي اللازم لممارسة حقها في الاختيار وأن ثقافتنا لا تهضمه باعتبارنا من ذوي الأصول الشمولية·· بالطبع لا ننكر هذا الاعتماد بل ونزيد عليه بأن الفرد أصبح قبلتنا وضامنا لاستمرارنا ولكن التجارب الديمقراطية لدينا موجودة وكانت معقولة قياسا بمستوى الوعي آنذاك·· أي في مطلع القرن العشرين عندما تشكلت لدينا برلمانات في العراق وسورية ومصر وأعطت نموذجا مازلنا نقتقده بل نحِنُّ إليه كلما زاد إفلاسنا وخاصة عندما ننظر بحسرة الى غياب المشروع الوطني الذي ذُوّب قسرا لصالح سلطة الفرد ورغباته ناهيك عن افتقادنا لثقافة التعدد والتي أفقدتنا بعدنا الإنساني التفاعلي مع الآخر·
رفضنا للطرود الخارجية ليس موقفا أيديولوجيا أو نزعة شوفينية إنما خيار ديمقراطي لما تحمله من نماذج مسيئة لهذا الخيار والتي هي أقرب لأجندة مصالح من طرف واحد ولا تناسب مشروعنا الوطني والقومي لأن خيار الشعوب خيار مقدس ولا يحتمل ثقافة الازدواج· |