رغم أن الإعلام الغربي والساسة الغربيين، وحتى بعض المؤسسات الإعلامية العربية والساسة العرب، قد تذرعوا بأن الحرب الدائرة في لبنان هذه الأيام قد تسببت فيها حادثة اختطاف الجنديين الإسرائيليين، إلا أن العارف بالمخططات الإسرائيلية والغربية يعرف أن هذه ذريعة غير حقيقية وأن إسرائيل قد تحججت بها لتمرير مخططاتها، كما أن الإدارات الغربية أيضا كانت تتحين فرصة كهذه لتعزيز الممارسات العدائية تجاه العرب والمسلمين، والذي يهمنا في هذه المسألة بالذات هو الدور الذي لعبه ويلعبه الإعلام، الغربي تحديدا، في تعزيز سياسات عدوانية كهذه وتبريرها، فنحن نلاحظ أنه على الرغم من دعوات حقوق الإنسان ودعوات حقوق الأقليات والدعوة للسلام، والظاهرة بوضوح في الخطاب الغربي، إلا أن هذه الدعوات تكاد أن تكون شبه معدومة على الصعيد الواقعي عندما يتعلق الأمر بالعرب، أو بالمسلمين تحديدا، ونحن لسنا بحاجة للشواهد في هذا الموضوع، بل تكفينا مسحة بسيطة للمعاناة والآلام التي يعيشها الشعب الفلسطيني والعراقي واللبناني، والأفغاني، وحتى الأقليات المسلمة في بعض الدول غير العربية، لنعرف أن مثل هذا الخطاب يستعمل أحيانا ككلمة حق يراد بها باطل، وهنا علينا، نحن العرب تحديدا، أن نولي الإعلام الأهمية التي يستحقها وأن نتعلم كيف نستعمله بشكل صحيح (وعسى أن يسعفنا الوقت والجهود في ذلك) ، وذلك حتى نتمكن من مجابهة السياسات التي تستهدف وجودنا وحياتنا وقيمنا·
إن الذي يقرأ في تاريخ الإعلام الغربي، وبشكل صحيح وعميق، يعرف الدور الخطير الذي لعبته القوى الصهيونية، منذ بداية ظهورها، في التغلغل في تلك الوسائل أولا، ومن ثم تجييرها لخدمة مصالحها، وهذا ما يبرر لنا بشكل جيد التحول الذي حدث في السياسات الغربية تجاه اليهود، وتجاه الصهيونية لاحقا، فبعد إن كان الموقف الشعبي الأوروبي العام، وحتى بعض المواقف الرسمية، وهذا يشمل أيضا الولايات المتحدة، يحمل شيئا من عدم التقبل وعدم الارتياح والنفور، وحتى أيضا العدائية، تجاه اليهود والصهاينة، إلا أن هذا الموقف قد تغير كثيرا وصار الدفاع عن حقوق اليهود، حتى كغاصبين، واضح في كافة المجالات الغربية، وخاصة الثقافية· ولعلنا لو عدنا مثلا إلى بعض الأدبيات الأوروبية، أو حتى القراءة في الموقف الأميركي السياسي تجاه اليهود في العهود السابقة، سوف نرى دلائل على المواقف الكارهة أو الرافضة لليهود ولما يحملونه من قيم ومن سمات لم يكن الغرب ليرتاح إليها أو يبجلها، غير أن الدور الذكي والمنظم والمدروس بدقة، الذي لعبه الصهاينة في الإعلام الغربي قد غير تماما من هذه المواقف، وهذا ما تجني إسرائيل ثماره اليوم·
إن تغلغل اليهود في وسائل الإعلام مكنهم بشكل واضح من تغيير صورتهم، والتي لم تكن تخلو من نمطية، في أذهان الغرب؛ بل ولن نبالغ إذا قلنا، وفي أذهان بعض العرب أيضا، ثم جاءت مؤسسات أخرى، اقتصادية وثقافية وصناعية، وحتى طبية أيضا، لتعزيز وجود اليهود وتغيير تلك الصورة، بما جعل اليهود يظهرون، ومن خلال استعمال وسائل الإعلام أيضا، وكأنهم أكثر الأشخاص ذكاء وعلما، وحتى إنسانية أيضا، وهذا ما أسهم بشكل واضح في تقبل اليهود في الغرب، لا بل والدفاع عنهم، وبالمقابل لعبت وسائل الإعلام الغربية، مشفوعة بخطاب غربي قديم، دورا كبيرا وخطيرا في خلق صورة نمطية للعرب تصورهم على أنهم جهلة وهمج وغير حضاريين، وأنهم يملكون أموالا طائلة لايعرفون كيف ينفقونها إلا في مجالات ملذاتهم، وأنهم أيضا عنصريون، وأنهم يضطهدون النساء والأقليات، ولم تظهر مطلقا، وبخاصة في مجال ما يسمى بوسائل الإعلام الشعبية، صورة العرب الحقيقية، وبخاصة تلك التي تعكس الجانب الأفضل في ثقافتهم، والمتمثلة في كونهم يحملون الإرث الثقافي الذي لم يميز ولا يميز في جوهره بين الثقافات والأديان، بل يحترمها ويقدرها كلها، والتاريخ يشهد على أن اليهود أنفسهم لم تحتضنهم وتحترم عقيدتهم ثقافة كالثقافة الإسلامية، وبخاصة عندما تكون تلك الثقافة في أفضل حالاتها، كما كان الحال في الكيانات الإسلامية التي ظهرت في دول مختلفة والتي كانت تقوم على احترام التعددية واحترام حقوق الأقليات·
إن تقبل حجم الدمار الذي يصيب العرب، واعتباره حادثا لهم لأنهم هم من يستدعيه، نتيجة ما يسمى برفضهم للتغيير "الديمقراطي"، لم يكن ليمر على ضمير العالم بهذه السهولة، لو لم تلعب وسائل الإعلام الغربية، والتي يتغلغل فيها اليهود بدرجة كبيرة، أو هم بالدرجة الأولى مالكوها، الدور الذي صور العرب وكأنهم هم المغتصبين والمنتهكين لحقوق الإنسان، والإسرائيليون وكأنهم الأقوام المضطهدة والمعتدى عليها طوال الوقت، وقد يقول قائل إن وسائل الإعلام الغربية تعكس أيضا، وبدرجة كبيرة، سياسات ومواقف الغرب العدائية والتاريخية تجاه العرب والمسلمين، وأن الثقافة الغربية في جوهرها هي ثقافة تحيزية وعدائية تجاه كل ما يخالفها، وهذا قول صحيح، لكن الصحيح أيضا أن هذه المواقف عززتها الأدوار المنظمة والذكية، والتي لعبها اليهود عبر زمن طويل، وعبر وسائل الإعلام تحديدا، لتعزيز وإذكاء هذه النزعات، وكذلك عدم العمل على تصحيحها أو إذابتها، كما أننا هنا لن نغفر أيضا للكثير من وسائل الإعلام العربية، والخطاب العربي، ممن لعب دورا خطيرا في ترسيخ مثل هذه المفاهيم ولم يعمل على تصحيحها أو تغييرها، إما جهلا، أو اعتقادا بأنها تسهم في تعزيز المصالح الآنية لبعض الأفراد والفئات، هذا على الرغم من أن الشواهد الحقيقية تعلمنا أن السياسات الغربية المعادية للعرب وللمسلمين قد أكلت أصدقائها قبل أعدائها، وأنها كالنار لا تفرق بين الأخضر أو اليابس، لكن النسيان، أو آفة الاعتقاد بأن الولاء للغرب قد يسلم البعض من جور هذه المعادلة، يدخل هؤلاء البعض في أوهام كبرى ويزين لهم ما يفعلون من أخطاء، ليس في حق أمتهم فقط، بل في حق أنفسهم أيضا "ولكن لا يعلمون"·
إن الذي يحدث في فلسطين وفي العراق وفي لبنان اليوم، والذي قد يمتد أيضا ليشمل مناطق عربية أخرى، أو دول إسلامية غيرنا، في الأيام أو السنوات القادمة، تحت ذرائع عدة، ليس إلا جرائم سافرة وانتهاكات حقيقية لحقوق الإنسان، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، مثلما هو أيضا اعتداء حقيقي على البشرية وعلى الحياة، وحتى على الطبيعة· إلا أن العالم اليوم، في كثير من جوانبه، لا يسمي الأشياء بأسمائها، لا بل الأدهى من ذلك، يسمي الضحية قاتلا، والقاتل يعطى وسام النصر ووسام الشرف، وكل هذه المعادلات تخل بتوازن الكون والإنسان، وتغير كثيرا في سمات الحياة وخصائصها، ولكن من يقول إنه لن يأتي يوم ينقلب فيه السحر على الساحر، وتعود للحياة سماتها الأمثل، وللشهداء الذين يعبدون ذلك الطريق الرضوان، ولهم المجد الحقيقي، ولا دائم إلا وجه الله·
جامعة الامارات |