المتتبع والباحث في شؤون الإعلام العربي لا يخرج في الغالب إلا بانطباع أن هذا الإعلام يعيش أزمة حقيقية تتجلى في عدم حصوله حتى الآن، ورغم سنوات عمره الطويلة، على المكانة التي تجعلنا ننظر إليه على أنه إعلام يتمتع بالمصداقية وبالوضوح؛ وفوق كل شيء بفهم وإيمان العاملين فيه لدورهم وحجمه والكيفية التي يتعاملون بها مع هذا الدور· وهذا الكلام أكدت عليه قبل أيام معظم الطروحات التي قدمها وناقشها الحاضرون في منتدى الإعلام العربي الذي انعقد في دبي وشاركت فيه أعداد كبيرة من المهتمين بهذا الشأن· الجامعات العربية ومراكز الأبحاث، حين تعاملها مع هذا الموضوع لا تخرج هي أيضا برؤى مختلفة عن مثل هذه الصورة، فلماذا يكثر الحديث عن أزمات الإعلام العربي ولا تكون هناك تغييرات حقيقية على صعيد إصلاحه؟ هذا السؤال جدير بأن نبحث فيه، حتى إن بدا لنا أننا نعرف الكثير من الإجابات حوله·
بعض الذين يبحثون في الشأن الإعلامي العربي يرون أن أزمته الحقيقية تتركز في أنه لا يتمتع بالحرية المطلوبة والضمانات التي تحمي تلك الحرية، ومن ثم فإن طرح هذا الإعلام لقضايا وهموم الإنسان العربي الحقيقية يبقى محصورا في إطار ضيق، أو لا يوجد أصلا· البعض الآخر، وكنتيجة للأزمة الأولى، يرى أن الإعلام العربي لا يخرج عن دائرة الخطاب المرتبط بأجهزة السلطات وطروحاتها، وما تريد إيصاله تلك السلطات للناس وما تريد حجبه· وبالتالي فهو لا يتمتع بالمصداقية الحقيقية أو المقدرة على الإقناع، لأنه ببساطة يعبر عن رأي السلطة ولا يعبر عن آراء الناس·
كل هذه الرؤى في واقع الأمر لا تخلو من مصداقية لأنها تعبر عن واقع موجود ويلمسه الناس بشكل يومي، والبعد الذي يفرض نفسه علينا كمهتمين بالشأن الإعلامي أو كباحثين في مجالاته أن نرى كل هذه الإشكاليات وأن ندرسها بعمق· لأن موضوع الإعلام أو بالأحرى إشكالياته في البلدان العربية موضوع وثيق الصلة بكل الأمور الأخرى في حياتنا· ولو أننا كنا من الذين لا يتعاملون مع الجزئيات ويحاولون النظر من خلال الصورة الأكبر، فإننا سنرى أن هذا الإعلام بالدرجة الأولى، وكما هو حاله في كل المجتمعات، لا يعكس إلا واقعه، وبدرجة كبيرة· إن كنا نرى أن الإعلام لا يتمتع بمساحات كافية من الحرية أو بالضمانات التي تمنحه حق الطرح الواضح والصريح للقضايا التي تهم الناس، فهذا الأمر يعود بالدرجة الأولى إلى أن المجتمعات نفسها لا توجد بها ضمانات للأفراد في حال أنهم عبروا عن رأي مختلف عن الآراء السائدة أو تعارضت طروحاتهم مع طروحات من يملكون زمام الأمور·
وجدير بالذكر هنا أنه يجب علينا كإعلاميين عند مناقشة قضايا الإعلام العربي أن يكون حاضرا في أذهاننا حقيقة جوهرية وهي أن المجتمعات العربية لا تغلب عليها صفة التجانس، أي أنها لا تتشابه في حقيقتها وواقعها· وبالتالي فإن مسألة التعميم حولها فيما يتعلق بالقضايا التي تواجهها أو تعيشها ستكون هي الأخرى مسألة تخلو من المصداقية أو الدقة أو التحميص· لذا فإن طرحي يجب أن يؤخذ بشيء من العمومية الحذرة، وذلك حتى لا نقع في دائرة فعل لا نثني عليه، وهو التعميم، والذي نشكو دوما من أن الآخرين يتعاملون معنا بناء على مقاييسه· من هنا نقول بأن الإعلام العربي بشكل عام لا تنطبق عليه معايير واحدة، مثلما هي الحال في الواقع العربي، والذي لا تنطبق عليه معايير واحدة· فالإعلام في بعض الدول العربية لها تاريخ وتجارب وتقاليد مختلفة عن غيرها من الدول العربية الأخرى، وبالتالي نأخذ هذه التجارب بما يتناسب مع تاريخها· المجتمعات العربية أيضا لا يمكن التعميم عليها بالدرجة نفسها فيما يتعلق بتركيبتها· ذلك لأنها لها أساليب حياة، وكثافات سكانية،ودرجات ونوعيات تعليم، وممارسات ثقافية، لا تشكل نسخا متطابقة مما هو موجود في معظمها، بل هي عالم من الاختلافات التي تتطلب التعمق حين الاقتراب منها ودراستها، وذلك خوفا من الوقوع في فخ التعميم الذي ذكرناه· فعلى سبيل المثال، نرى أن دول المغرب العربي تختلف ثقافات ساكنيه وتجاربهم الحياتية عن دول المشرق، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار موضوع نوعية التجارب السياسية أو الاستعمار ونوعيته وتأثير تلك النوعية على تجربة الحياة لدى إنسان تلك البلدان· وما يحدث في العراق اليوم يضيف بعدا آخر، أو بالأحرى بعدا خطيرا في نوعية التجربة التي يعيشها الإنسان، والتي لن نعرف في الوقت القريب حجم الخراب الذي ستخلفه في النفوس، وإن كنا نرى بعض مؤشراته· فالحرب المتجاوزة لكل الأعرف والقيم، والتي أطاحت وانتهكت كل حقوق الإنسان، بما في ذلك حقه في إبداء الرأي أو التعبير، لا شك ستكون لها دمغتها الكبيرة في نوعية الإعلام الذي ستخلفه· هذه أيضا مساحة يجب علينا أخذها بعين الاعتبار ونحن نتحدث عن الإعلام العربي·
القضية الجوهرية الأخرى التي تجعلنا نحن الباحثين في مجال الإعلام ننظر إليها بشيء من القلق هي قضية الطرح في مجال حرية الإعلام من منطلق الدعوة إلى تحريره من أيدي السلطات وتمكين القطاع الخاص من التعامل في مجاله· وهذه الدعوة، وإن بدأت في ظاهرها بأنها دعوة إلى تحرير إعلام من هيمنة السلطة التي تريده بوقا لها، إلا أنها دعوة لا تخلو أحيانا من شيء السذاجة· لأنها أولا لم تدرس واقع الإعلام الخاص في دول العالم بشكل عميق لتعرف ما له وما عليه، وثانيا لأنها افترضت أن المشكلة الحقيقة في حرية الإعلام تقع في كونه مرتبطاً بالسلطة ونسيت أن المؤسسات الاقتصادية هي أيضا تمثل سلطات حقيقية ولها سياساتها وأهدافها وطموحاتها، والتي ليس من بينها بالضرورة وجود جمهور واع مثقف ومتحمل لمسؤوليات بلدانه، لأن وجود مثل هذا الجمهور سيشكل بالضرورة قلقا لها لكونه سيكون غير خاضع للغرائز ولا يعلي قيم الاستهلاك فوق المثل العليا·
كثيرة هي الهموم والقضايا التي تدمغ ساحات إعلامنا العربي، ولعلني أختم بمؤشر واحد أتمنى أن يكون موضع اهتمام منا، ألا وهو أن نعزز، نحن المهتمين بهذا الإعلام، جانب البحث الذي يعتمد على القراءة التحليلية والذي بإمكانه أن يعطينا إدراك أكبر، ليس فقط لواقع إعلامنا، بل واقعنا نحن، واقع حياتنا، أو نوعية الحياة التي نعيشها، أو تلك التي نتمناها·
جامعة الإمارات |